بقلم: عبد اللطيف علـــوي
مازلت أذكر أوّل مرّة شعرت فيها بقيمة نصّ أكتبه…
كان ذلك في السّنة الخامسة ابتدائيّ، وكان معلّمي في العربيّة: “سيدي ساسي”
كان رجلا قصيرا نحيلا، أشهب بعينين زرقاوين فيهما حَوَلٌ جميل، سأحتاج إلى أن أكتب عنه لاحقا نصّا طويلا، لأتحسّس بعض ما تركه ذلك الرّجل النّادر في نفوسنا، نحن أيتام ذلك الجيل المحروم…
في أواسط السّبعينات، لم يكن في قريتنا مكتبة، ولا كتب مطالعة ولا صحف ولا مجلاّت عند أيّ كان…لم يكن لدى غيرنا سوى الكتب المدرسيّة، أمّا نحن في قسمنا، فقد حظينا بجنّة جعلتنا سادة محسودين في مدرستنا.. مكتبة قسم أنيقة وساحرة، هيّأ لها “سيدي ساسي” ركنا بديعا وعلّمنا كيف نعتني به بعيوننا وقلوبنا، وجعل لنا نظاما في المطالعة، كلّ قصّة نطالعها ب20 ملّيما، يدّخرها المعلّم ليوم الخميس، الّذي ننتظره بشوق الظّميء إلى الماء، لأنّه كان ينزل فيه إلى بوسالم، أقرب المدن إلينا، فيقتني لنا مجموعة جديدة بما تحصّل من مساهماتنا…
صار لتلك الدّريهمات القليلة الّتي نحوزها من حين لآخر معنى، وأيّ معنى!… ونحن نراها تتحوّل إلى عالم بديع من الكلمات والألوان والحكايات السّاحرة المتجدّدة..
لم أكن تلميذا مميّزا، أو بالأحرى كي لا أبالغ في ظلم نفسي، لم أكن تلميذا يسعى إلى إظهار تميّزه، لأنّني في النّهاية لم أكن أخرج عن الخمسة الأوائل، لكنني كنت كتوما وخجولا جدّا (وأعتقد أنّني مازلت على هذه الصّفة إلى اليوم، رغم ما أحاول أن أوهم النّاس به)، ولم يكن “سيدي ساسي” ينتبه إليّ بشكل خاصّ، حتّى حدث مرّة أن كتبنا إنشاء، أذكر أنّه كان في موضوع ظلم تعرّضت له، وأذكر أنّي كتبت فيه بكلمات بسيطة وربّما ساذجة، لكنّها نابضة بالصّدق والإحساس، لأنّني تحدّثت فيها عن حادثة عشتها…
أذكر أنّه كان في نظراته إليّ يوم أعاد إلينا المواضيع، شيء من المفاجأة والذّهول، كأنّه يراني للمرّة الأولى، أو يلوم نفسه أنّه لم ينتبه إليّ قبل ذلك اليوم. أشاد بعملي بشكل غير مسبوق، قرأه مرّتين على التّلاميذ، وكأنّه يغنّي أو يرقص على إيقاع كلماته… سمعته يقول بامتلاء وعطش لا أعرف كيف أصفه: “هذا هو ما أحبّه… اكتبوا عن أشياء تعيشونها، فإذا لم تعيشوها فتخيّلوا دائما أنّكم تعيشونها”… ثمّ يصمت قليلا ويعود إليّ كمن لا يصدّق “أحسنت يا بنيّ … أحسنت أيّها الأديب الصّغير”…
في ذلك اليوم، ولد في نفسي إنسان جديد، ذاك الّذي سمّاه سيدي “الأديب الصّغير”، وشعرت به مع الأيّام يهتك حجب الصّمت ويطلّ على الدّنيا بعينين أوسع من كلّ الدّنيا. ظلت تلك الكلمة تتردّد بيني وبين نفسي مثل صلاة أتهجّدها… كان ما فعله شبيها بنوع من التّوصيل الكهربائيّ جعل حواسّي تتحفّز كلّها وتستيقظ دفعة واحدة، وصار لي عالمي، صرت أشعر أنّه بإمكاني أن أقول أشياء كثيرة بطريقة غير الّتي تعوّد النّاس على قولها…
في كل مرّة، وأنا أقرأ تنويهاتكم الجميلة على نصّ أكتبه، أتذكّر سيدي ساسي.
تلقّيت تنويهات كثيرة وكلمات إعجاب وأحيانا جوائز لها معنى، مثل جائزة أمير الشّعراء، لكنّني لم أشعر يوما بشيء يشبه ما شعرت به ذلك اليوم، يوم مدح سيدي ساسي إنشائي، وجعلني أشعر للمرّة الأولى بقيمة ما أكتب…
منذ أيّام، سمعتهم يقولون إنّك متّ يا سيّدي، أنا لا أصدّق ذلك أبدا…
ما زلت أراك تقف عند كتفي مع كلّ نصّ أكتبه، تقرؤه معي وتشطب منه ما تشطب، فأعود وأصلحه وأعالجه إلى أن يستقيم، حينها تبتسم، وتكتب في النّهاية على رأس الورقة بخطّك الأحمر الإلهيّ الجميل: “حسن جدّا”…
يقولون إنّك متّ يا سيّدي، أنا لم أصدّق ذلك يوما…
علّمتني في كلمتين ما لا يتعلّمه الكثيرون وهم يقرؤون عشرات المجلّدات في النّقد والبلاغة والمناهج، أنه ليس عليّ سوى أن أكتب بكامل الصّدق فقط، وأن أترك الكلمات تعيش حياتها… تتنفّس أو تصرخ، تضحك أو تبكي أو تغنّي أو ترقص…
لم تكن رجلا عاطفيّا يا سيّدي، ولم تقل لنا يوما إنّك تحبّنا، لكنّنا كنّا نسمعها في كلّ حرف درسناه على يديك.. كنّا نسمعها وظللنا بعد ذلك نسمعها حتّى في أحلك أيّام القهر والنّكران والخذلان، ترنّ في أعماقنا بمنتهى الوضوح والثقة واليقين، وتلهمنا الصّبر الجميل في مدن بلا ضمير.
شكرا “سيدي ساسي”
أنا أيضا نسيت أن أقول لك يومها كم أحبّك، لكنّني أحبّك حقّا… لو تدري!
الإمضاء:
أديبك الصّغير.