بقلــم: د. فتحي القاسمي
لقد تركت وفاة أستاذنا الدكتور المرحوم محمد الحبيب الهيلة حسرة كبرى في نفوس أسرته وأحبائه وطلابه وكل من عرفه في تونس وخارجها، وإنه لمن أضعف الإيمان أن نعرف بهذا العالم الجليل الذي خدم الثقافة التونسية والعربية والإسلاميّة والكونية بصدق وكفاءة وعزيمة يعز نظيرها.
ولد المرحوم د. الهيلة في حي الحلفاوين بالمدينة العتيقة تونس يوم 24 ديسمبر1931م، عندما كانت البلاد التّونسية تحت الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، ويبحث شبابها عن مسالك الخلاص من الاستعمار والجهل والتّخلف. وقبل العشرين من عمره التحق بجامع الزّيتونة، وسرعان ما تحصّل على شهادة التّحصيل سنة 1950م ثم شهادة العالمية (1956)، وظل يراوده حلم الالتحاق بأعرق جامعة فرنسية، وهي السّربون، فجدّ في حذق اللسان الفرنسي، وواصل بالسربون على غرار بعض أترابه مثل المسعدي الدّراسات العليا، فنال شهادة الدّكتوراه سنة 1967م، وكان موضوعها حول التّاريخ الأندلسي. ثم نال شهادة دكتوراه الّدولة عام 1976م، وكان محورها الزهد وأثره في المجتمع الافريقي من الفتح إلى نهاية العصر الأغلبي (296 للهجرة).
وقد كان تخرجه من السربون ردّا بليغا على الذين يدعون أن جامعة السربون لا يلتحق بها إلا المدرسيون “الصادقيّون أوخريجو معهد كارنو،،،”، ولم يدرس بالجامعة التونسية (كلية الآداب) لأسباب…وإنما التحق بالمدارس الثانوية إلى حدود سنة 1967م، ثم التحق بكلية الشّريعة وأصول الدين أكثر من عشرين سنة (1967-1985م)، وعلى يديه تخرج آلاف الطّلاب والطالبات من رجال التّربية. وأسهم بمقالاته ودروسه في النهضة العلمية والتربوية، وكذلك بمحاضراته في مختلف المنابر.
شد الرّحال إلى جامعة أم لقرى بمكة المكرمة، وأفاد بعلمه طلبة كلية الشريعة وأصول الدين (1985-1997م). تفرغ بعد ذلك للتأليف والتّحقيق والترجمة، ودعي أستاذا زائرا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (2012-2014م). ويعترف له السعوديون بالفضل الكبير محققا ومدرسًا ومترجمًا، ومؤطرا لعشرات رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه. وقد علم طلابه أساليب البحث والتّحقيق والنظر الدّقيق، وما قدوم طالبته الدكتورة لمياء الشافعي إلى تونس هذه الأيام إلا لمسة بر ووفاء لهذا العالم التّونسي المتميز.
وقد أسر لي الدّكتور عبد الرزاق الحمامي اليوم (وللدكتور الهيلة الفضل في اقتراحه أستاذًا بالجامعة الإسلامية منذ إحدى عشرة سنة) بأن العلماء السّعوديين اقترحوا دفنه في مكّة أو المدينة فآثرت عائلته الدفن بمقبرة الجلاز حتى تتمكن من زيارته والتّرحم عليه بيسر. وإنّ النّاظر في مؤلفاته الغزيرة يلاحظ ما يلي:
1- العناية الفائقة بتحقيق كتب ثلة من كبار علماء تونس ممن خدموا الثّقافة التونسية والإسلامية والكونية يدل على ذلك الكتاب التّربوي حول “تدبير الصّبيان وسياستهم جسميّا وعقليّا” للطبيب والعالم أحمد بن الجزار، وكتاب “الحلل السندسيّة” للوزير السّراج وفتاوى البرزلي تلميد الشّيخ محمد بن عرفة الورغمي خصيم ابن خلدون، وكتاب “الأجوبة” لابن عظوم أحد كبار علماء الزّيتونة (خصه أيضا بكتاب حول حياته ومسيرته، وقد اعتبره “لمعة نور في عصر أفل”.
2- العناية بتاريخ الحجاز (مكّة والمدينة قديمًا وحديثًا)، ويتجلى ذلك في تحقيق كتاب “نيل المنى بذيل بلوغ القرى بتكملة إتحاف الورى” لجار الله بن العز بن النجم بن فهد المكي، وفي كتاب التّاريخ والمؤرخين في المدينة المنورة إلى القرن الرابع عشر للهجرة. ومنذ سنوات صدر له كتاب هام بعنوان “ينبع من خلال الوثائق الفرنسية”، ويضم 600 صفحة. وقد جمع من الأرشيفات الفرنسيّة جما من الوثائق التي ترجمها باقتدار إلى العربية، وتكشف، كما أكد لنا الصّديق عبد الرّزاق الحمامي الذي ساهم في إنجاز هذا العمل العلمي والتوثيقي الهام، عن مطامع فرنسا والغرب في الجزيرة العربية. ويعتبر السعوديون الدّكتور الهيلة مؤرخ مكة المكرمة.
إنّ الدكتور المرحوم محمد الحبيب الهيلة كرس حياته خدمة للعلم وأهله ونبش عن الوثائق والتراث فأخرج لنا الدرر ورحل عنّا تاركًا ذكرًا طيبًا وعلما في صدور النّساء والرّجال وآثارًا تشهد له، أبد الدهر بالفضل والصّدق والفرادة.