بقلم: مصطفى الستيتي
ينبغي الاتّفاق أولاً على أنّ المتعلّم ليس بالضّرورة مثقّفًا، فكثيرٌ من النّاس همّهم التّفكير في نيل الشّهادات بغاية الحُصول على وظيفةٍ مريحةٍ وشُغل يُدّر عليه راتبًا مجزيًا. هذا كل ما في الأمر، ومع مغادرتهم لقاعات الدّراسة يهجُرون الكتاب وينقطعُون عن عالمه، ولا يهمّهم شأن الأدباء والمفكّرين ولا ماذا ألفوا وكتبُوا. هذه قناعةٌ منتشرة في مجتمعنا على نطاق واسعٍ. وبالمقابل نجد مثقّفين متميّزين محبّين للمعرفة والقراءة والكتاب والاطّلاع، وهم لم يحصُلوا على شهاداتٍ عليا. وعندما تحدّثهم تجد نفسك مع عُقول متفتّحةٍ، وآفاق واسعةٍ، ورؤية واعيةٍ، وإدراك عميقٍ للقضايا الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها. هذا هو الفَرق بين المتعلّم والمثقّف. فإذن ليس كلّ مُتعلم مثقّف.
في الحقيقة لن يصلح أمر مجتمعنا إلاّ إذا اِقتنع بأنّ حاجته إلى المعرفة والكتاب لا تقلّ عن حاجته للطّعام والماءِ والهواءِ. ولن يستقيم حال الأجيال القَادمة إلاّ أصبحت المكتبة في البيت حاجة ملحة وضرورة حياتيّة، فتحرص عليها العائلة حرصها على شراء آخر ماركات الهاتف والتّلفزيون والملابس وغير ذلك. والمشكلة أن النّاس يعتنُون عناية كبيرةً بحاجاتهم المادّية ويُهملون إهمالاً مخيفًا حاجاتهم النّفسية والعقليّة والرّوحيّة، ومن هنا يحدث الخلل في بناء شخصيّة الأفراد والمجتَمعات. وما لم يقع إحداث التّوازن المطلوب بين مكوّنات الإنسان وحاجاته فسوف نظلّ نُعاني من أزماتٍ وعقدٍ ومطباتٍ لا تنتهي.
لهذا السّبب وجب التّنبيه إلى ضرورة غراسة فكرة أهمّية الثّقافة في الطّفل منذ نعومة أظافره. عندما يفتح الطّفل عينيه على العالم المحيط به من حوله في البيت ينبغي أن تقع عيناه على مكتبةٍ، على كتابٍ على قصة على روايةٍ، على رسوم جميلة، على أثرمن آثار الفنون… ولا يكون هم الوالدين الأكبر هو فقط منحه ما يحتاج من غذاءٍ مادّي، وكسوته والحفاظ على صحّته البدنيّة، فصحّته النّفسية والعقليّة لا تقلّ أهمّية. وإذا قال الأولون “العقل السليم في الجسم السّليم، فيُمكننا القَول كذلك إنّ الجِسم السّليم لن يبقى سليمًا بدون معرفةٍ وثقافةٍ”.
قد لا يكون الوالدان بالضّرورة قارئين جيّدين، لكن من المهم جدًّا توفير البيئة المناسبة لأبنائهما لكي تُغرس فيهم هذه العَادة، فخير جليسٍ في الأنام كتاب. وعندما نقول الكتاب فلأنّه يجيبُ على أسئلةٍ كثيرةٍ قد لا يجد الطّفل لها جوابًا عند من حوله، ولأنّه يجعل القَارئ يستفيد من عقولِ الآخرين وتَجاربهم، فلا يُكرّر أخطاءهُم، وبالتّالي يكسب الزّمن والجُهد معًا، وتكون حياته أكثر سلاسةً وسهولةً.
نحن نركّز على البيئة المنزليّة لأنها محدّدة لما سيأتي بعدها. فالمرء يتأثر أكثر شيءٍ بوالديه، وهما أقربُ النّاس إليه. ثم يأتي دور المدرسة والمجتمع، وهو دورٌ حاسم ومهمّ جدّا في علاقة الطفل بالمعرفة والكتاب، فإمّا أن تعزّز بيئةُ المدرسة والمجتمعِ ما اكتسبه الطفلُ في بيئة المنزل من حبّ للمعرفة والاطّلاع وشغف بالكتابِ، وتصقل ما نما من مواهب لديه وإمّا أن تدّمر هذه المكتسبات وتقضي عليها في مهدها.
فالمدرّس ينبغي أن يكتشف المواهب من بين أبناء مدرسته، وينير لها الطّريق، ويُحرّض الأطفال المبدعِين على الكتابة، ويدرّبهم ويبعث فيهم الحماس، ويدلّهم على المراكز الثّقافيّة التي تحتضنهم وتشدّ على أيديهم. وهكذا يتكوّن المثقّف والأديب والشّاعر والكاتب. فالطّفل مع الثّقافة تمامًا مثل لاعب الكرة، فهو لا يُتقن رياضته بين ليلةٍ وضحاها، بل يحتاج إلى تقويم وجُهد وتعبٍ وتحفيز.
إذن صناعة المثقّف هي عمليّة تراكميّة، تساهم فيها بيئة المنزل والمدرسة والمجتمع. ولكلّ بيئة أهمّيتها وتأثيرها الكبير والحاسم في حياته المعرفيّة. وعندما يكون هذا المثقّف الصّغير في مجتمع يقدر الثّقافة والمعرفة، ويدرك أهميّة ما يكتبه فسوف يتحمّس أكثر للمزيد من الإبداع، أمّا إذا أُهمل ولم يُلتفت إلى مواهبهِ وقدراتِه فسوف تضمُر وتموت، شأنُها شأن النّبتة التي يُصيبها العَطش فتذوي وتفقد بريقها ثم تمّوت. ومن هنا كان لزامًا على جميع الأطراف الحرص على توفير البيئة المناسبة لصناعة هذا الطّفل المثقّف لأنه هو مستقبل البلاد والأمّة، ولا خير في مجتمعٍ لا يُقيم وزنًا للمعرفة، لأنّه ما من أمّةٍ نهضت بغير العِلم والمعرفة.