بقلم: د. منجي الأشعاب
أعتذر من صاحب ” الشحّاذ”. فنحن الكُتّاب نحترف اللّصوصية لنستمرّ.
” قصّة من الواقع بتصرّف من الكاتب”
***
الوقتُ غروب، أصلح من هندامه ثمّ أزاح العرق من على جبينه بيديه وهمّ بالصّعود. عربة المترو مُثقلة بالكادحين المتهالكين على الكراسي. النّعاس ينزل ثقيلاً على عيونهم بعد أن داعبتها نسمات مُنفلتة من الشبابيك المُمزّقة كتمزّق قلوب هؤلاء. صمتٌ يُخيّم إلاّ من حفيف الهواء المتسرّب ليُغيّر بين الفينة والأخرى بعضَ روائح العرق الُمتصبّبة كشلاّلات المصارف الصحّية المتدفّقة في باطن الأرض. العيون ناعسة، القلوب هائمة و الميترو يتهادى وسط الزّحام كثعبان أخضر يقتحم الأشواك.
توسّم خيرا لمّا لم يجد تلك السمينة البدينة الّتي تزعجه بصوتها المنطلق نحو أُذنيه ” كالبوق” وهي تستجدي عطف الركّاب صباحا مساء ويوم الأحد دون كلل أو ملل. استجدى عزرائيل كي يقبض عليها ويريحه منها. كلّما أطلّت عليه بوجهها العريض الممتلئ أصابته الدنيا بمعاولها وسرقت منه لحظات سعادة مُرتقبة: يُقبض عليه من قبل مراقب التذاكر، يُسوّد الامتحان، يُصاب بالإفلاس، يُمزّق أحد نعلي حذائه… لم يُدرك لمَ اقترن وجودها في العربة بحادثة مأسويّة تُسقط عليه كبركانٍ؟
اعترضت سبيله ذات صدفة بالباب وحملقت في وجهه وقالت له: أربع سنوات جيئة وذهابا في هذه العربة ولم نر منك دينارا واحدًا. ألا تكفّ عن الشحّ أيّها البخيل وتكرم مسكينا أصابته الدنيا وأعجزته. ردّ عليها بنظرة أعمق وأزاحها من أمامه ونزل.
ورغم قساوة الردّ منه إلاّ أنّ خيالها لم يُزح من ذاكرته. قلّبت تلك الكلمات الموجعة ضميرَه مرّات ومرّات. لعلّها امرأة مسكينة أنهكها المرض، وكثيرات ممّن يُعانين بؤس البدانة في عصرنا، ولعلّ تلك الشحوم المكتنزة بجسمها مرض لا يُشفى صاحبه. أصابه وجع كثير ولكن ما باليد من حيلة، فالفقر يقتحم حياته ويُصرّ على الاستقرار فيها.
توسّط العربة وجعل يديه مِسندا ليصوّب بها ثقل رأسه نحو الأعلى حتّى يستقيم بعد أن أثقله التفكير. هو كادح كهؤلاء ولكن بالقلم لا بالسّاعد. شمله الهواء المُتأتّي من الجهة الشرقية فتراقصت رموش عينيه وأطبقت. حرارة شمس نهاية شهر جوان أخذت في الأفول وبدأت نسمات الليل تداعبُ الأجساد المُحرقة، المُنهكة، الذابلة، المتداعية إلى الاضمحلال.
عاد إلى رشده بعد أن كاد النّعاس يأخذه إلى أحلام باتت أوهن من بيت العنكبوت لأن ضيق الحياة قد كتم أنفاسه وحدّ من إطلاق جناحيه. أخرج القطعة النحاسية من جيبه. دينار واحد هل يسدّ ليله المتوحّش والمارد، هل يسدّ جوعه المُرابط في أمعائه منذ منتصف القهر. هل يكفيه لأن تحترق الكائنات من حوله، هل يكون سبيلا لاحتساء قهوة بطعم مرارة حياته؟
ضحك طويلا حتّى قطع ضحكُه النومَ على ركّاب العربة لمّا تذكّر سؤال نادل المقهى له: لمَ لا تضع السكّر في قهوتك حتّى تذهب عنها المرارة، و متى تكُفّ عن إحراق السجائر؟ قال والألم يُداعبه بلطف، من رأسه حتّى قدميه: أمّا السجائر فهي الكائن الوحيد الّذي يحترق من أجلي، أرأيت يوما كائنا بهذا البياض وهذا اللطف يحترق من أجل إنسان؟ أمّا القهوة فهي سوداء مُرّة على شاكلة حياتي المعتّمة وقد قررت ألاّ أضع بياضا حتّى تبيضّ حياتي وتنصع.
ينتظر متى يصل إلى المطعم الجامعي حتّى يقتل الألم ويُنهي الجوع المُقتحم لحياته عنوة. لم يعد يملك ما يكفيه من مال حتّى يُنهي الأسبوع الأخير له في الجامعة ولا يستطيع ارتياد حظائر البناء ليطرد الفقر بأجرة يومين أو ثلاثة، فالامتحانات قد أخذت منه مأخذا وأنهكت قواه. لم تبق إلاّ شهادة واحدة ويُطلّق الجامعة بعد صداق بينهما دام أربع سنوات.
لعلّ هذا هو الأمل الوحيد الّذي يُلطّف من مرارة حياته، أن يحصل على الشهادة ويُغادر بدون رجعة. لم يشأ أن يستفيق من حلمه بل مع معاودة النعاس له تصاعد الحلم إلى أن وصل إلى وظيفة مرموقة وزوجة جميلة وحياة مُزركشة بأزهار الربيع.
بيد أنّ الصوت المعتاد يُهاجم أُذنيه من بعيد إلى أن اقتربَ واستقرّ على بعد أنفاسٍ منه. لم يعرف أيّ إحساس يستقبل في هذه اللحظة: أيتشاءم أم يتفاءل بعد أن استعصى عليه التشاؤل على رأي إيميل حبيبي.
الصوت هو نفسه كما سمعه منذ أربع سنوات في المكان نفسه والزمان نفسه يتكرّر ولا ينفكّ عن التوقّف، تعالى الصوت بالغناء المعسول المخضبّ بنبرات الوجع :” مْتاع الله يا كريم، صدقة جارية تُذهب عنكم الهمّ وتزيل الكرب، وخيّتكم مرا وحدانية وزوالية، صدقة جارية على رحمة الوالدين”.
تعمّد تجاهلها فلا يُمكنه التفريط في ديناره اليتيم، بل اعتقد أنّه الأولى بالعطايا فالجسد ترهّل من فرط المراجعة والعقل يسبح في العدم. لا جسدا قويّا ولا مالاً يتصدّق به.
سرق النظر إليها فإذا هي تستمسك بالعصا بعد أن كفّ النسيم عن التسرّب وارتفعت حرارة العربة مع تزايد عدد الركّاب. تقدمّت قليلا، تمايلت وكادت تسقط، ثمّ استمسكت لكنّها لم تستطع، تشبّثت بالعمود فأغمي عليها ليرتطم جسدها الممتلئ بالأرض ويُحدث صوتا مرعبا. تراجع جميع الركّاب، ابتعدوا، رفضوا مُساعدتها، حملقَ فيهم ولا أحد تقدّم منها.
أحسّ في تلك اللحظة أنّها أمّ بلا أبناء، بلا سند في الحياة فقيرة مقطوعة بلا أمل. انتابه إحساس مخضّب بالألم على هذه الثكلى، وعلى هذا المجتمع البائس بلا رحمة، ولا قيمة ولا أخلاق. واقتحمه شعور أنّ هذه أمّه الّتي افتقدها في قريته الصّغيرة وهجرها ليأتيها بعد سنين من الجهاد بشهادة لا تعترف بمعنى الإنسانية والقيم والأخلاق والمبادئ.
بات صوتها عندليبا يُدغدغ أذنيه وزقزقة عصافير الربيع المُحتفلة ببهجة الطبيعة وانتشار الزهور في المروج، وبدت رائحتها تفوح عطرا ، ورضاب عرقها يتقاطر مسكا. سحب المرأة بهدوء من العربة وأجلسها فوق كرسيّ على ضفاف المحطّة. فكّر كيف يُمكن أن يتصرّف بدينار أبيض في جيبه فهو لا يُسمن ولا يُغني من جوع. اشترى قارورة ماء وقطعة صغيرة من الشكولاطة وقدّمها للمرأة.
وبعد أن استفاقت قليلا حملقت في وجهه متسائلة عن الّذي أصابها. حدّثها بكلّ التفاصيل غير ضياع ديناره الوحيد وعشائه في المطعم الجامعي. لم يشأ أن يُفسد ذلك الإحساس الّذي انتابه فالدينار يمكن أن يُعوّض لكن شعوره بالفرح لا يُمكن أن يجد له بديلا. غير أنّ الحزن سرعان ما عاوده بعد أن تذكّر إفلاسه فتساءل عن كيفية إعادة صاحبته إلى منزلها.
أعلن إفلاسه صراحة وقال إنّه لا يمتلك ملّيما ثمن سيارة أجرة حتّى يأخذها إلى بيتها. اتّكأت على كتفه وهو ثابتٌ وطفقت تفكّ أزرار قميصها حتّى أخرجت كيسا أسودَ ضخمًا به قطعٌ نُحاسية لا تُحصى بيضاء وصفراء ومختلفة الألوان، وقالت خذ منه ما يكفيك ويكفينا للوصول إلى داري.
في سيارة الأجرة جلس إلى جوارها وأخذ يعدّ الأموال الّتي في الكيس. عجبا إنّها أموال تعادلُ أو تفوق أجرة موظّف مرموق لأشهر عديدة. سرق النظر إليها مرّة أخرى فإذا جسدها المكتنز المثقل متهالك على الكرسي أمّا عيناها فلا ترتفع من على الكيس: لا تُغمض ولا تُقلّب ولا ترمّش. تُحدّق بقوّة رهيبة وتركّز بدقّة على حركة اليد وهي تعدّ قوت يومها.
سألها وهو يعلم مُسبقا الإجابة، لا رغبة في السؤال وإنّما سؤال إنكار: أهذا ما جمعته اليوم؟ كأنّه يقول “هذه الأموال كثيرة”
قالت: هو ذاك فقط يا بُني عدا بعض الأوراق في هذا الكيس الصغير . فإذا بها أوراق مختلفة الألوان.
قال: وهل يوجد من يتصدّق بمثل تلك الأوراق؟
أجابت بعد زفير طويل داعب أذن السّائق الّذي انتبه فجأة إلى حديثنا: يوجد من يتصدّق ولكن عليك أن تحسن اصطياد الفريسة حسب الموقف وحسب الحالة وحسب الوجه الّذي أمامك.
أصبحت عالمة اجتماع، مُدركة لخفايا النّاس وطبائعهم.
أربعون سنة يا بُني وأنا أجوب شوارع العاصمة. مات زوجي وأنا في مقتبل الشباب وترك ثلاثة أبناء وهم الآن بعد صبر وجهاد: مهندس وطبيب وأستاذ جامعي.
توقفت سيارة الأجرة أمام مبنى ضخم من أربعة طوابق وأمامه تتوقّف سيّارتان من أحدث الأنواع وأضخمها. تنهّد السّائق ورمقها بنظرة حادّة: تفضّلا لقد وصلنا المكان المقصود.
عاد إلى عائلته في القرية مُحمّلا بشهادته الجامعيّة. أُقيم له حفل بسيط بمناسبة تخرّجه. لفّ الشهادة في إطار مُذهّب وعلّقها على جدار المنزل إلى جانب شهادات إخوته المُعطّلين. ابتاع أثوابا رثّة أسدل، لحيته وأشعث شعره وقوّس ظهره وطفق يشتغل شحّاذًا .
الأمين الكحلاوي
حقيقة شدتني هذه الخاطرة أو الأقصوصة القصيرة للدكتور الأشعاب وقد أدركت أنه فعلا ممن تملك زمام القص .هي قصة اجتماعية ذات أبعاد نقدية لامست واقعنا وحدثت الدهر بما فعل فينا القهر والفقر وعبرت عن مأساة جيل لم بستمتع بثمار جهده فبعد الدراسة والتخرج يبدأ النضال والكفاح من أجل حفظ كرامة الإنسان ومن أجل ايجاد المكافئ لتلك السنوات من التضحيات في سبيل العلم والمعرفة و هو يكتشف بعد تخرجه أن ما درسه في دفاتره لن يفي بالغرض في مجتمع استبدل الأدب بالذهب . ويفاجئنا الأشعاب بنهاية للقصة عجيبة يرضى فيها صاحب الشهائد الجامعية بدور الشحاذ.فما قيمة ما تعلمه وما مصير هؤلاء الذين نراهم اليوم أمام وزارة التعليم العالي يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء غير مبالين بحر الشمس ولا بصخب ولا بنصب في سيل كرامتهم.
Tout porte à croire que cette petite histoire plonge le lectorat dans les rouages de la vie à travers ses moindres méandres. De fait, le titre ( le
( chemineau
est symbolique dans la mesure où il condense tout un parcours- le plus important- considéré comme l’événement capital de notre vie qu’est le diplôme de fin d’études. Néanmoins, ce qui m’a viscéralement frappé, c’est l’idée qui apparaît en filigrane dans cette œuvre et qui nous a taraudés au point de nous tourmenter; aussi demeurons-nous sur le qui-vive. Le protagoniste, qui plus est, n’est qu’un personnage veule, avachi, amorphe… il ne fait que constater. En effet, ses actions sont d’ordre psychologique : il se laisse faire
, court le cours du fleuve de son destin. Il n’en peut mais ! Hélas ! Trois fois hélas ! L’on attendait à un personnage fougueux, déchaîné, impétueux…
De surcroît, les faits sont fondés sur une idée matricielle qu’est la mouise. Le miséreux est taxé d’incommodité, d’importunité. Aussi, le qualifiant de crève-la-faim, de meurt-de-faim, un vrai gueux ! L’on est devant un renversement de rôles : la vie est à l’envers; au lieu d’être recruté afin de subvenir aux besoins de sa famille, le voilà optant pour une autre façon de vivre : la mendicité ! L’on ne cesse de pleurer son sort non sans clouer les responsables au pilori, les désignant à la vindicte publique comme coupables, partant, méritant un sévère châtiment ! Somme toute, le récit est une expression vive de notre réalité gangrenée par des travers, des abus où l’on est est innocent mais injustement puni ! Je félicite l’auteur de la qualité de son style, usant d’une écriture ô combien filandreuse mais stylisante ! Mes intenses révérences pour le ciseleur Mongi Lachaab.
قراءة قيّمة استاذ عبد الله. وتلك هي رؤية الناقد. الرواية أو الاقصوصة يجب ان تقرأ بوجهات نظر مختلفة، وهذا ما يدل أن الاقصوصة قد لامست الإنسان في أبعاده المختلفة.