بقلم: د. كوثر يونس
معنى أن تنظر إلى وجه تلك الأم فلا ترى سوى عيونًا تبكى دماء على الجرح النّازف الذي أبى أن يكفّ، وعلى فراق أغلى هدية منّ بها الله عليها ..ابنتها و فلذة كبدها إيناس.. هكذا أراد الله و هذه مشيئته .. ولا مرد لمشيئة من يقول للشيء كن فيكون…
هناك فوق السّحاب، وعلى صفحات الذّكريات و بين أوراق رحلة استهلكت كلّ أنفاسي، متناثرة أحبارها كزخّات مطر أسود فوق صحراء جرداء بلا حياة، كانت إيناس ترقد على فراش الموت تُصارع المرض، تتشبّث بالحياة. ليس من أجلها فهي كانت تعرف أنها ميّتة لا محالة، و لكن تتشبّث بالحياة من أجل والدتها. صدّقني أيها القارئ أنا لا أعلم أأكتب عن إيناس صديقة عمري ورفيقة دربي، وذاك الملاك في صورة إنسان أم أحكي عن الخالة ناجية لوعة الألم و دموع أمّ ماتت ابنتها وفارقتها إلى دار البقاء. عن ماذا سأكتب بالضّبط؟ لا أدري، ففي دموع الخالة ناجية و هي تنظر إلى ابنتها فوق فراش المرض أسرار حيرتني و أحزان قتلتني ولوعة ألمٍ أبكت عيوني ليالي حتّى إنه ليخيّل إليّ أن رأسي سينفجر من الصّداع و الألم.
إيناس تلك الشّابة التي تضاحك الدّنيا بأملٍ يطاول السّحاب، ورقّة وطيبة تُغازل هدير نهر دافق رقراق، وحبّ وسع كلّ شيءٍ، وكلّ النّاس دون استثناء. إيناس تلك الطّبيبة الشّابة التي صارعت المرض ورفضت أن تستسلم للموت من أجل تلك الأمّ، ذاك الملاك الطّاهر، و رقدت إيناس على فراش الموت تصارعُه بأملٍ مسجون خلف الأبواب ينتظر ساعة إفراج ليرى نور الشّمس. وجلست الخالة ناجية على كرسيّ خشبيّ تُراقب ابنتها، وتطمئن كلّ لحظة أن صدرها يعلو و ينخفض وأنّ أنفاسها لم تفارقها بعد. جائعة، لا تذوق الرّاحة، تحارب الوسن وتطرد عنها أوجاع جسمها المنهك كي لا تغفو لحظةً عن إيناس، لكنّها كانت مستسلمةً لحكم القدر رغم قساوة وجهه و غزو الرّكام لبقايا روحها المتعبة.
نظرتُ إلى صديقتي المستسلمة للمرض و المتحدية للموت، و نظرت إلى الخالة ناجية، وشعرتُ أنني في بحر هائج من الآلام و الأحزان وأنّ مركبي الصّغير سيغرق لا محالة. وبينما أنا غارقة في بحر من التّفكير دخل الدّكتور المشرف وطمأن الخالة ناجية أنهم سينزعون آلة التّنفس الاصطناعي، فرحت الخالة ناجية بالخبر راجيةً من الله أن تقوم ابنتها و أن ترجع إلى سالف عهدها. وأمام سماعي دعاءها قفزت الدّموع من مقلتيّ وأجهشتُ بالبكاء، وردّدت وراءها: إن شاء الله يا خالتي ناجية إن شاء الله. كنتُ أعلم أنّ إيناس لن ترجع لسالف عهدها، و حتى لو قدّرت لها الحياة فلن تمشي على ساقيها من جديد، ومع ذلك مسحتُ دموعي و ابتسمت في وجه الخالة كي لا أربك فرحَتَها و قلت لها: إن شاء الله…
مرت الأيّام ثقيلةً في مستشفى جراحة الأعصاب بتونس العاصمة، عالم كبير، ومرضى كثيرون من مختلف الجهات وطواقم جديدة لم أتعامل معها من قبل. أحسستُ بغربتي وسط من تجمعني بهم مهنة الطبّ. كنت قليلاً ما أبرح غرفة صديقتي حتّى آخر اللّيل فأغادر المستشفى للنّوم وأترك الخالة ناجية تنام على كرسيّ خشبيّ تُراقب ابنتها، ورفضت مغادرتها للحظة. رجوتُها مرّات أن تُرافقني لكنّها رفضت بإصرار. كيف تريدينني أن أترك إيناس تنام وحدها؟ أمام إصرارها تُؤلم الغصة حنجرتي وأتماسك كي لا أبكي أمامها، ثم أنصرف لأعود في الصّباح الباكر. وكلّما اقتربتُ من المستشفى كنت أشعر بانقباضٍ شديدٍ وألمٍ كبيرٍ خوفًا من تلقّي خبر مفجع.
مرّ الوقت كئيبًا حزينٍا، والخالة ناجية تترقب أي إشارة فرج تغسل تجاعيد جرحها وتخفف من تنهيداتها الحارة. نظرت إليّ الخالة بعيون يملأها الألم، نظرت إلي وقد ارتسمت على وجهها الشّاحب ابتسامة مزيّفة فيها حقدٌ وكرهٌ كبير لهذا المرض الذي أهلك ابنتها، وقالت لي: لم تتكلّم إيناس إلى الآن”. ثم نظرت إليها وقالت: هيّا حبيبتي تكلّمي فأنت دومًا تحبّين الحديث و الابتسامة. وعبثًا رُحت إداري دموعي عندما سالت دمعةُ إيناس على خدّها. بكت إيناس في صمتها القاهر من دون صوت، بكت للعذاب و الألم الذي ستعيشه أمّها من بعدها، من بعد رحيلها.
كانت الفترة التي قضيتها مع إيناس ووالدتها مثل الموت البطيء بالنسبة إليّ، كيف لا ووسواس الحزن ينخر عظامي حتّى استهلك كل طاقتي على مواجهة الوجع و الألم، سكنت و جهي غيمة شحوب و كان كلّ من يراني يخيّل إليه أنني جثّة تفارق الحياة ببطء شديد.
لهفة الخالة ناجية وفيض الحنان الذي كانت تعطيه لابنتها جعلني أسال نفسي ألف سؤال: ماذا فعلنا نحن تجاه أمّهاتنا؟ ومهما فعلنا هل يطفئ نار دمعة من عيونهنّ خوفًا علينا و تفكيرًا بكلّ ما يُحيط بنا. إن ما عانته الخالة ناجية طيلة مرافقتها لابنتها في المستشفى أرهق جسدي و روحي، ودفعني إلى معانقة أسرار أمومة غريزية تقبع في عالمي الباطني و الفطري. وأدركت وقتها معنى الحديث النبوي: “الجَنّة تحت أقدَام الأمّهات”.
لقد لاحت النّهاية، رحلة الخالة ناجية لم تكن جدّ طويلة بقياس الزّمن، و لكن الله و حده يعلم كم هي طويلة بمقياس الألم والرّجاء و الصّبر و ظلام اللّيل وطوله و كثافة الضّباب عند الفجر. لا مردّ لمشيئة الخالق الذي أراد لإيناس أن تلتحق به بعد رحلة مرضها. فليكتبها من أهل الجنّة وليتقبّلها بمغفرته ورضوانه.
رحلت في صمتٍ، خيالاً من الذّكريات، وظلاّ من الغيوم، غابت عن العيون التي كانت تعشق إشراقتها رويدًا رويدًا كالثلج، رحلت إيناس كما ترحلُ الطّيور المهاجرة من موطن إلى آخر، لكن الطّيور تعود عند قدوم الرّبيع و إيناس رحلت، ولم ترجع مع حلول كلّ ربيع.
رحلت إيناس لتتلبد السّحب الدّاكنة فوق تلال الوهم فترسم في سماء أمّها لوحةً رماديّةً فتهطل أمطار الحزن والفراق. بكت الخالة ناجية رحيل اِبنتها، وكَتبت حُزنها بحروفٍ عمّقت الجرح ففاضت الدّماء. أيّ قسوة تلك التي سكنت أهدابها، وأيّ غيمة حزن تلك التي حلّت بسماء تلك الدّيار. وأسدل الظّلام.. أسدل الظّلام على عيادة الدّكتورة إيناس وبكت أحواض الورود التي كانت تهتم بها، وبكت دفاترها وأقلامها. كلّ شيءٍ في عيادتها بكى رحيلها. ولم يبق الآن سوى مزيج من ذكريات زمن ثقيلٍ تناثرت حول المكان.
ومهما بكى الأهل والأصحاب والأقارب، فأحزان الخالة ناجية فاقت كلّ الأحزان. رفضت الخالة ناجية موت ابنتها، ورفضت كلمة المرحومة إيناس، نعم لم تكن تحبّ أن تسمعها، ولم تزر إيناس في قبرها طيلة السّنوات الأولى بعد موتها. سألتها ذات يوم لماذا رفضت زيارتها في المقبرة؟ فردت ودموع الألم تعتصرها: وما الفائدة من زيارة كوم تراب؟ إيناس ابنتي هناك في السّماء، وها أنا انتظر …
ويمرّ الزّمان ممتطيًا صهوة عمر وشيب ومعاناة الخالة ناجية مع هدير الأيّام، وتمرّ معه قوافل الذّكريات و أمواج مآسي الحياة بأفراحها وأحزانها. يمرّ الزّمان تتبعه الأنهار تاركةً ضفافها مستلقية على أصداء صرخة الأمكنة الحزينة. يمرّ وتمرّ معه النّجوم من أمامها متهكّمة عليها وعلى مسار ليلها الحزين. ليل فقدت فيه ابنتها بعد أن رفع القدر الرّاية البيضاء مهزومًا أمام قدر النّهاية، تاركًا أمامي صفحات من الذّكريات أعيد قراءتها بين الفينة و الأخرى كي لا أنسى أيّ جزء أو حرف منها.