بقلم: نصر الدّين السويلمي
“وَأَوحَيْنَا إلَى أمّ مُوسى أَنْ أَرضِعِيه فَإذَا خِفْتِ عَليهِ فَأَلقِيـه فِـي اليـمّ وَلاَ تَخَــافِي وَلاَ تَحْــزَني إنَّا رَادُّوهُ إِليكِ وَجَاعِلُــوهُ مِنَ المُرْسَلِين”.
لم يسبق للمولى عزّ وجل أن قدّم أسرار رُسله، منذ طفُولتهم إلى بعثتهم، إلاّ إلى الأم!!! سيذهب موسى إلى فرعون، سيعيش هناك في قصره، فكيف يُخرج الرّبّ سبحانه سرّ نبيّه!!! كيف يكشف خارطة طريق الرّضيع، من الصّبا إلى التّكليف إلى التكليف! تكليف العقل والتّكليف برسالة النبّوة، كيف يعرّض مشروع النبّوة إلى المخاطر ورُبّما الفشل؟!
لأنّ ربّ الأم يُدرك أنّ الأم لن تعرّض ابنها إلى المخاطر ولن تَنشر أسراره ولو أعطوها كنوز الدّنيا، ولو وضعوا لها الشّمس في يمينها والقمر في يَسارها..
قال لها ” فَإذَا خِفْتِ عَليهِ فَأَلْقِيه في اليَمّ”، فألقته! يــا الله ما هذا اليقين!!!
قال “إذا خفتِ عليه”، الولد الآن عند أمّه تحت مسؤوليتها، وربّها وربّه يقترح عليها المساعدة، إذا خفت فالقيه.. “إذا” تفيد الاحتمال، لأنّ المسألة بيد الأمّ، هي التي ستختار! أمّا وقد قرّرت أن تستجيب لربّها وتلقيه في اليم فقد انتهى الأمر! تحوّلت المسؤولية من الأم إلى الرّبّ!!! هنا لم يقل لها: وإذا خفت عليه إنا رادوه إليك! بل قال: “ولاَ تَخَافي ولاَ تَحْزَني إنَّا رَادُّوه إلَيكِ”، لا تخافي ! لاَ تحْزني، لماذا أمرها؟ لأنّ الأمر خرج من يدها إلى يد ربّها، فانتفى الخوف كما انتفى الحُزن.. لم يعد الولد في رعاية بشريّة تنخرها الثّغرات، بل أصبح في رعاية ربّانية لا تعتريها الثغرات..
” فإذا خفت عليه” كان احتمال الخَوف قائمًا حين كان الرّضيع في معيّة الأم..
“ولاَ تَخَافِي ولا تَحزَنِي”، انعدم احتمال الخوف، لمّا أصبح الرّضيع في معيّة الرّبّ…
وكتمت الأمّ خبر ابنها عن المدينة وعن نسوة المدينة، وعن عشيرتها وعن أهلها وعن ابنتها، بل كتمت خبر النبوّة حتّى عن ابنها! تركت لربّها اختيار التّوقيت الذي سيعلن فيه لموسى خبر التّكليف بالنّبوّة! عجيـــــب! كانت الأم تدرك خبر النبوّة قبل أن يدركه النبيّ نفسه، بل ربما كانت مع ربيها “ثاني اثنين” إذْ وحتّى جبريل مازال لم يحط به خبرًا.
قال: أَرضعيه، فأرضعته.. قال: ألقيه فألقته.. قال إنّا رادّوه إليك، فصدقت بل أيقنت..
ثمّ هل تراها ظلت في البيت تترقّب حتّى يردّه الله وهي المؤمنة المشبعة باليقين؟
لا بل تحرّك قلب الأم ليصنع الإضافة بعد أن استوفت أوامر ربّها، أنجزت الأوامر الربّانية والاجراءات العمليّة على أحسن وجه، لكن الأمّ تحتاج إلى إجراءات نفسيّة، جرعات تخضّب بها اليقين فيستريح.. ثم يركن إلى قدر الله وقدرته…
إذًن، ماذا فعلت لتلبّي غريزة الأمومة؟
“وَقَالَتْ لأُختِهِ قُصّيهِ”! هذه لا دخل لها بالإجراءات العمليّة، هذه تندرج ضمن الإجراءات العاطفيّة، ضمن حاجة الأم إلى مراكمة الطمأنينة…
كيف؟ ألـم تؤمن؟!
تلك مسألة حسمها الله مع نبيّه إبراهيم قبل أن تأتي أمّ موسى بقرون “قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِن، قَالَ بَلَى وَلَكنْ لِيَطمَئنَّ قَلْبِــي”.
سلامٌ إلى السّيدة أَيارخا، أو أياذخت، أو يُوحاند، أو بادونا…لا تهمّ الأسماء ما يهمّنا هو السّلام كلّ السّلام إلى أمّ الكَليم.. سلامٌ عليك قبل عيد الأمّ، وحين عيد الأمّ، وبعد عيد الأم… السّلام عليك يا أيارخا يوم وُلدت ويوم مُتّ ويَوم تُبْعثين…
شكرا سويلمي وسلمت يداك أبدعت فعلا فوقفت على معان مهمة وأبعاد في غاية الأهمية أم موسى رمز الأمومة الصادقة المؤمنة المستسلمة لربها تمد كل أم بالطمأنينة وتقدم دروسا في اليقين .سبحان من قدر فأمر ونهى وخطط وهدى ووعد فأوفى ونصر وهزم جند الباطل فأغرق ودمر.”وما رميت أذ رميت ولكن الله رمى”. لو استصحب المؤمنون مثل هذا اليقين لنصروا منذ أمد بعيد ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ولكن هل آمنا فعلا كأيمان أم موسى.لو فعلنا لخاب كل جبار عنيد وخسئ كل أجناس الأرض وعبيد الطاغوت.ما أحوجنا إلى مثل هذه النصوص التي تبعث الأمل بأن النصر قريب إذا قربناه وبعيد إذا بعدناه.وما النصر إلا من عند الله.ولكن أملدنا إلى الأرض ورضينا بالحياة الدنيا واطمأننا إليها.فتسلط علينا أراذل الناس ورعاعهم وسفلتهم .فهنا على الله .اللهم ردنا إلى دينك ردا جميلا.
الرجاء إصلاح كلمة أملدنا ب أخلدنا
بين قداسة النصّ وقداسة الأمّ تتوهّج المعاني. وقد نهل الكاتب منهما بل نهل من قداسة النصّ ما يثبت قداسة الأمّ. أليست الجنّة تحت أقدامهنّ. ولمّا كانت كذلك شملها ” الوحي” ( أوحينا إلى أمّ موسى). فتنوّع بين الأمر والنهي. أمّا الأمر فيظهر في قوله ( أرضعيه، ألقيه) وأمّا النهي ( لا تخافي ، لا تحزني). خطاب مباشر بين الله سبحانه وأمّ موسى. ومن مظاهر عظمة هذه الأمّ هي الاستجابة المباشرة والثقة في الله. فكما كان للرجل عقل فللمرأة ايضا عقل تُخاطب به وترتقي إلى درجة استيعاب الوحي وتطبيق ما أوحى به الله إليها. …. دمت أستاذ.