بقلم: نصرالدّين السّويلمي
خابت بنو عبس حين منعت عنترة عن عبلة، وخابت أكثر عندما تكبّرت عن ابن السّمراء، وشرّعت بنو عبس خيامها للخيبة لمّا عبثوا بالفتى العاشق، تعسًا لهم لمّا ينادونه في السلم يا ابن زبيبـة وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب! شقيّة هذه بنو عبس، عابسة مكفهرّة وهي تقدّم الفتى الأسمر ليقودها حين تدقّ طبول الحرب وتؤخّره حين تدقّ طبول الحبّ! ترفضه وهو فارسها، ترفضه وهو فتاها الذي يغضّ طرفه إن بدت له جارته حتى يواري جارته مأواها، ترفضه وتبالغ في رفضه حتى أنّه من شدّة الرفض يصرخ في وجه بل في قفا القبيلة الجاحدة المعرضة عنه:
ولولا الهوى ما ذلّ مثلي لمثلكم ولا خـضعـت أســد الـفـلا للثّعالـب..
لقد كانت تقاليدهم سقيمة جاحدة لا مروءة فيها، تراهم يصطفّون خلفه فيكرّ ويفرّون، حينها لم يكن به عور ولا هم انتبهوا لما يعتريه من نقصان عنصري، لكن وحال ينجلي الغبار ويختفي العدو خلف الهضاب، وتهدأ الأرض تحت أقدامهم وتأمن نساؤهم من السبي، يتهامسون بينهم، إنّ الهجين لا يحقّ له في عرف القبيلة أن يتزوّج من الحرّة الخالصة.
كانوا كلّما رحّلوه بعيدًا عنها احتمل اسمها وذكراها وارتحل، كان يخبئها تحت الدّرع، بل تحت الجلد الأسمر. كانت عبلة حاضرةً في كيان الفارس المظلوم، حاضرةً في حركاته وسكناته، حاضرةً في نومه ويقظته، بل حاضرة في بتّاره حين يكون في ذروة الخصام.. في ذروة الصّدام.. حين يلتحم، يطلب الموت ويصدّه، ولقد ذكرها والرّماح نواهل منه، وبيض الهند تقطر من دمه، فود تقبيل السّيوف لأنّها لمعت كبارق ثغرها المتبسم.. لله درّه من مجنون لذيذ، يحسن كيف يدسّ الأخلاق في عشقه، ويقول عواطفه دون أن يجرح شرف القبيلة العنصريّة.
ماذا عليهم لو مكّنوا الفتى من فتاتهم فأصبحت فتاته على عرف القبيلة وعلى سنّة بني عبس؟! ماذا عليهم وهي العفيفة وهو الذي يرسم العفّة بشعره كما يرسم الشّرف بسيفه، ماذا عليهم لو أرسلوها له بعد أن أثخن في عدوهم ومنع الحياض وأبقى على الخيام بكرا لم تدنّسها حوافر الغارات ولا صهلت في بهوها خيول العدو؟! ماذا عليهم لو جاءته عبلة حين يستريح من الحرب تحت ظلّ شجرة؟! ماذا عليهم لو جاءته تمشي على استحياء، وقالت له إنّ بني عبس تدعوه لتجزيه أجر ما ذاد عنها، أولاد العنصريّة! كيف تقدّم مدين عذراءها لنبي كجزاء لشربة ماء، ولا تقدم بنو عبس عذراءها لفارس جزاء لدهرٍ من الحروب؟! ماذا عليهم لو زوّجوه وهو الذي يقول لهم لا تخافوا نجوتم بفضل سيفي من القوم الظالمين؟ ماذا عليهم لو أنكحوه ابنتهم وهو الذي يأجرهم منذ اشتد عوده، عشرون من الحجج تزيد وهو في خدمتهم وفي مقدّمة رماحهم وعلى مسافة صفر من سيوف عدوهم؟!
ماذا عليهم لو أطلقوا له الفتاة الرهينة، ثمّ ألقوا سيوفهم ودخلوا في خيامهم لمعاقرة النّبيذ ومجاهدة الثّريد وتركوا له السّاحات يخوضها ويعالج ثغراتها.. كان سيكفيهم مشقّة الحرب أبدًا، كان قفز إلى المستقبل واستل أبيات الحطيئة وجعل منهم زبرقانا أو زبارقة، ثمّ أعفاهم بتاتا من شرف الحرب بعقد موثّق يكتب فيه ويوقّع: دعوا المكارم لا ترحلوا لبغيتها …واقعدوا فإنّكم أنتم الطاعمون الكاسون.
ويكأنّه ليس من قبيلة في هذا الكون اقترفت متناقضات بني عبس، ليس من قبيلة في أرض الله الواسعة، فارسها وشريفها وشرفها في الحرب هو عارها وعبدها ووضيعها في السلّم.. تبّا لبني عبس حين يعشقون سيف الفتى ويكرهون لونه! تبًّا لهم حين يضطّر إلى إجابتهم:
ﻟﺌﻦ أكُ أﺳﻮدا ﻓﺎﻟﻤﺴﻚ ﻟﻮﻧﻲ وﻣﺎ ﻟﺴﻮاد ﺟﻠﺪي ﻣﻦ دواء
وﻟﻜﻦ ﺗﺒﻌﺪ اﻟﻔﺤﺸـــﺎء ﻋﻨّّﻲ ﻛﺒﻌﺪ اﻷرض ﻋﻦ ﺟﻮّ اﻟﺴّﻤﺎء
وما الوفاء وما الحياء غير عنترة بن شدّاد العبسي، وما الجحود وما الصّفاقة غير بني عبس.
ولد عنترة بن شدّاد العبسي قبل سنوات من البعثة النّبويّة، ولد الرّجل حرّا فاستعبدوه، منعوه من ابنة عمه! أبّ وأبّ! جدّ وجدّ!! بعد سنوات من محنة الفارس الأسمر، جاءت محنة البلبل الأسمر، ولد بلال عبدًا فكرّمه الإسلام وحرّره، ومنحه النّبي صلّى الله عليه وسلم شرف السّمو حين رقّاه إلى مستوى المآذن الشّامخة..
قبل سنوات فقط حين كانت العرب تغطّ في مجاهل الجاهليّة، ذبحوا عواطف الفتى الحرّ، الفارس الشريف لمجرّد لونه، ولمّا نزل الأمين بالبشرى من غار حراء، ولما فزعت سيّدة الكون تزمّل وتدثّر، حينها وحينها فقط تحوّل العبد الحبشي إلى سيّد، وارتقى الأسمر من ممحون جحدت عليه القبيلة فتاة من دمه، إلى سيّد وهبته الأمّة مآذنها فهو بلبلها ومزّمار داوودها.. ثمّ تزوّج بلال الأسمر الحرّ من الحرّة هالة بنت عوف أخت عبد الرّحمن بن عوف، أحد أثرياء الصّحابة، أحد المبشّرين بالجنّة، أحد ستّة الشّورى…
تلك رسالة الإسلام العظيم حين تحوّل اللّون من محنة إلى منحة.. ذلك عنترة الأسمر يبكي مأساته في معلّقة كاملة تحاذي معلّقة الخنساء ومأساة صخرها، وهذا بلال الأسمر يصعد صوته العذب إلى عنان السماء : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
مبدع هذا الفتى ورب الكعبةطاف بليل حول خيمة بني عبس فاسترق منهم فصاحتهم ونبذ وراءظهره عاداتهم وتقاليدهم فانتصر للسيف وحول بقلمه سواد عنترة إلى نور تلألأ فسطع شعاعه فبلغ الآفاق وصار عنترة وشعره وبطولاته مضرب الأمثال .وكشف قلم السويلمي السيال بأسلوب المقارنة بين عنترة وبلال عن اختلاف النظرة إلى الأشياء والمفاهيم والوجود ما قبل الإسلام وما بعده وهو بذلك يشير إلى عظمة الإسلام فبمجيئه حدثت الثورة الحقيقية على كل ماهو غير إنساني .وأسس بذلك حضارة تقوم على رؤى جديدة لا تقف عند حدود الزمان والمكان وما أحوجنا اليوم إلى إعادة النظر بتدبر في أصولنا الحضارية لنستمد منها المعين الحقيقي لنهضتنا ونشيع في العالم روحا جديدة تملأ الكون أمنا وطمأنينة وعدالة وحرية وسلاما فيتحرر الإنسان من عبوديته للأشياء ويعانق بروحه وكيانه العبودية الحق التي تجعله إنسانا جديرا بالحياة .