بقلم: أ. هذباء الغويلي
لشيخ الحيّ حضيرةُ دجاجِ، بنى سياجها ورفعه وثبّت بابها وأوصده. كان يخشى عليها من الثّعالب الماكرة التي تهاجم الحضائر بين حين وآخر. تتسلّل ليلاً وتقفز على سور الحضيرة فتخنق ما تشاء من الدّجاج ثمّ تأخذ نصيبها وتفـــرّ.
كان شيخ الحارة يُطلق على الثّعالب اسم القوم المفسدين، لأنّها لا تكتفي بسرقة الدّجاج بل تعيث فسادًا في الحضيرة وتخنق عددًا كبيرًا من الدّجاج وترحل، فلا هي استفادت بلحمها ولا هي تركتها حيّة ليستفيد منها شيخ الحارة.
لكن هذه المرّة اتّخذ شيخ الحي جميع التّدابير اللاّزمة حتى لا تداهمها الثّعالب. آتت هذه التّدابير أكلها، فمنذ أشهر والدّجاج يعيش في سلامٍ وأمان، ينعم بما يوفّره له شيخ الحارة من طعامٍ وشرابٍ.
كان شيخ الحي يتخيّر لدجاجاته أفضل أنواع العلف وأنقى المياه، و إن لزم الأمر يقوم بنفسه بتنظيف مخلّفاتها، كان لا يتردّد في التّواصل مع البيطري إن قلّ بيضها أو خبا نقيقها.
شيخ الحي راض عن مردود الدّجاج؛ بيض وفير ولحم كثير، وربح كبير. تضاعف عدد فراخه، فبات يفكر بتوسعة الحضيرة، لكن للأسف الشّديد ليس لديه المساحة الكافية للقيام بهذه الخطوة، فكر شيخ الحارة في شراء مساحةٍ صغيرةٍ من حديقة جاره سلمان، ولم لا؟ فحديقة سلمان واسعةٌ يمكن أن يبيع قسمًا منها ويستفيد من ثمنها. عرض الفكرة على زوجته فأخبرته أنّها سمعت جارتها زوجة سلمان تُخبر جارتها أمّ عابد أنّهم سيبنون بيتًا لابنهما عمّار في حديقة المنزل استعدادًا لتزوجيه. أصيب شيخ الحيّ بخيبة أمل، فقد منّى نفسه بتوسيع حضيرته حتى أنّه وضع مخطّطا مبدئيّا لذلك.
ظلّ شيخ الحيّ عاكفًا يفكر، فكّر وفكّر ثم فكّر، ورغم طول تفكيره إلاّ أنّه لم يجد حلاّ مناسبًا لأخذ قطعة من حديقة جاره. وذات ليلة خطرت بباله فكرةٌ رأى فيها الحلّ لمعضلته. وفي الصّباح الباكر اختار شيخ الحيّ أفضل فراخ الحضيرة وعبّأها في صناديق وحملها في عربته، واتّجه إلى بيت رئيس البلديّة. نعم، لقد قصد بيت رئيس البلدية، فله عليه بعض الجميل، ولا يمكن أن يخذُله.
قبل أن يطرق الباب فرّغ العربة من الصّناديق ووضعها أمام الباب ثمّ قرع الباب. خرج له الخادم، فأخبره أنّه جاء لزيارة رئيس البلديّة، فأعلمه الخادم أنّ رئيس البلدية في إجازةٍ بسبب وعكة صحّية، وطلب منه الانصراف والعودة في وقت لاحقٍ. امتعض شيخ الحارة وألحّ في طلب المقابلة، وعندما رأى إصرار الخادم تقدّم منه وهمس في أذنه. وبمجرّد أن انتهى شيخ الحي من كلامه انصرف الخادم مسرعًا إلى الدّاخل، وفي لمح البصر عاد مصحوبًا بخادم آخر أشار إليه بالدّخول، وحمل هو ورفيقه صناديق الفراخ التي لم تتوقّف عن الصّياح منذ أن وضعها شيخ الحيّ أمام الباب.
أُذن لشيخ الحيّ بالدّخول إلى غرفة الجلوس، فوجد رئيس البلدية مستلقيًا على الأريكة وبطنه تتدلّى أمامه، وبجانبه ما لذّ وطاب من الفواكه والمشروبات والحلويّات، وبشماله سيجارة ينفث دخانها، لا تبدو عليه علامات العافية. عندما أقبل عليه شيخ الحي حاول الرّئيس جاهدًا أن ينهض ليسلّم على ضيفه، لكن بطنه المكوّرة أثقلت حركته، فأقسم عليه شيخ الحيّ بألاّ ينهض من مكانه، وتقدّم منه وقبّل يده.
لم يُطل شيخ الحيّ في الحديث وإنّما اختصر الأمر وقصّ عليه القصة وما يرجوه منه. صمت رئيس البلديّة وبدأ يمسح على بطنه مفكّرًا لعلّه يجد مخرجًا لشيخ الحي. وفجأة برقت عيناه وتوقّف عن مسح بطنه بكفّ يده ووضع سيجارته جانبًا. شدّ شيخ الحيّ أنفاسه، وأطرق سمعه ينتظر البشرى. ابتسم الرّئيس وهزّ رأسه ثمّ قال مطمئنًا شيخ الحي:
- لا تشغل بالك يا شيخنا، اعتبر الموضوع منتهيًا وسأتّصل بك خلال أيام.
نهض شيخ الحيّ مستبشرًا وعيناه ترقصان فرحًا ولسانه يلهج بالثّناء والدّعاء لرئيس البلديّة.
عاد شيخ الحي إلى بيته والسّعادة تغمره، وبمجرد أن استقرّ في مجلسه سحب جواله من جيبه واتّصل بمهندس المدينة يريد منه تصميمًا عصريّا لحضيرة دجاج. مرت الأيام وشيخ الحي يلقي كلّ صباح نظرةً على حديقة جاره سلمان وهو يمنّي نفسه ببلوغ مراده. وذات مساء اتّصل به رئيس البلديّة يطلب لقاءه، وقبل أن ينهي حديثه شكره على هديّته، وأعرب عن رغبته في تذوّق لحم فراخه اللّذيذ مرّة أخرى.
في الصّباح الباكر حمل شيخ الحي ثلاثة صناديق أخرى من الفراخ وانطلق إلى بيت رئيس البلدية، أحسن الرّئيس استقباله وأكرم ضيافته، لكنّه تأسّف عن عدم مساعدته لأنّ جاره سلمان لا توجد لديه مخالفات تخصّ البلدية تخوّل لهم الاستحواذ على حديقته. وقبل أن يقطع شيخ الحيّ الرّجاء أخبره الرّئيس أن يتوجّه إلى صديقه المأمور في الدّاخلية وسوف يساعده في بحث ملّفه القانوني لعلّه يظفر بشيء يمكنّهم من وضع اليد على حديقة الجار سلمان. وقبل أن ينصرف شيخ الحي شاكرًا قال له رئيس البلدية مبتسمًا:
- أرجو ألا تنسى أن تُذيق صديقنا المأمور لحم فراخك اللّذيذ.
في اليوم الموالي، وقبل غروب الشّمس كان شيخ الحي أمام باب بيت المأمور برفقة صناديق الفراخ. طرق الباب فأُذن له، وأدخل إلى قاعة الجلوس، وأحسن المأمور استقباله وضيافته. وبعد أن تحدّث معه وشرح له مراده طمأنه المأمور وطلب منه بعض الأيّام لتقصّي الأمر.
أمضى شيخ الحيّ أيّامه وهو يخطط ويصمّم، ويحسب الأرباح والمصاريف. وفي ختام اليوم الثّالث اتّصل به المأمور يطلب حضوره، وفي لمح البصر انطلق شخ الحيّ إلى بيت المأمور على عجلٍ دون أن ينسى الفراخ التي أوصى بها المأمور. لكنّ المأمور خيّب آماله وأخبره أنّ جميع الأمور القانونيّة التي تتعلق بجاره سليمة ولا توجد أيّة مخالفة يمكن استغلالها ضدّه.
وقبل أن تخبو آمال شيخ الحارة وتتبخّر أحلامه زرع المأمور في نفسه بصيص أملٍ عندما أخبره أنّه سمع أن لجاره سلمان مشكلةً مع وزارة الإسكان، إذ حسب التّصاميم الجديدة للحيّ، وفي نطاق توسعة الطّرقات وتحديثها سيتمّ هدم قسم من حديقة منزله. وحتّى يتثبّت من الأمر أعطاه اسم أحد أصدقائه القائمين على هذه القضيّة. عاد الأمل إلى شيخ الحيّ وتهللت أسارير وجهه، وشكر المأمور، ولكن قبل أن يهم بالانصراف ابتسم المأمور وقال:
- أرجو ألاّ تحرم صديقنا بوزارة الإسكان من طعم فراخك اللّذيذ.
في الصّباح الباكر قصد شيخ الحارة المدينة لمقابلة صديق المأمور الذي رحّب به، وأعرب عن حسن نيّته في التّعاون معه، لكنّه طلب منه أن يمهله بعض الوقت ليتقصّى الأمر.
وبعد أيام اتّصل به صديق المأمور، وطار شيخ الحي من شدّة الفرح، وتوجه إلى بيت الرّجل دون أن ينسى صناديق الفراخ التي طلبها منه صديق المأمور. وبعد أن أحسن صديق المأمور ضيافته تنحنح وقام من مجلسه ثمّ رفع بنطاله الذي انحصر تحت بطنه وقال:
- في حقيقة الأمر يا شيخنا لقد فعلت ما بوسعي وودت أن أخدمك لكنّ هذا الأمر يمرّ من فوق.
وأشار بإصبعه إلى أعلى، ثم واصل حديثه:
- نعم إنّ أمر هدم الحديقة يأتي من فوق، ولكنّي أعرف صديقًا يمكنه أن يتوسّط لك في الأمر لعلاقته الوثيقة بمن هم فوق، وهو يقيم في العاصمة، ولكن لا تنسى أن تذيقه من لحم فراخك اللّذيذ.
أخذ شيخ الحي عنوان الرّجل واسمه، وبعد أيّام امتطى سيارته وحمل صناديق الفراخ وقصد الشّخص الذي حدثه عنه صديق المأمور. واستمر شيخ الحيّ على هذه الحال، فلان يسلمه إلى فلان، وآخر يوصي به إلى آخر حتّى ضاقت به الدّنيا، وفقد الأمل. وذات يوم، وبعد أن بلغ به اليأس مبلغه دخل حضيرة الدّجاج وشرع يتأمل فيها، فلاحظ التّراجع الكبير لعدد الفراخ، كما شدّته الحالة المزرية التي أصبحت عليها الفراخ والحضيرة، فاشتدّ غضبه وراح يكسر السّور الذي بناه ويزيح الأقفال عن الباب وهو يردّد في غضب:
- لقد بنيت السّور، وأحكمت إغلاق الأبواب خوفًا من الثّعالب لكنّ الله ابتلاني بالذّئاب البشرية، بل والله إن تلك الثّعالب لأرحم من هذه الذئاب فلئن كانت الأولى تقتل وتسرق وتترك لي نصيبًا فإنّ هذه الذئاب البشرية لم تترك لي شيئًا غير النّطيحة والمتردية. آهٍ يا سخرية الأقدار منك يا شيخ الحيّ، تلك الثّعالب تأتي وتسرق خلسةً أمّا هذه الذئاب فأنت الذي تحمل إليها الفراخ مبتسمًا ممتنّا، وتوصلها إلى باب دارها عن طيب خاطر. يا لي من أحمق وغبيّ، إنّي أستحقّ أن أُصلب في مدخل الحيّ.
وفيما كان يلوم نفسه ويُعاتبها سمع ضحكات تنبعث من حديقة جاره سلمان، تسلّل بهدوء مسترقًا النّظر لمن في الحديقة، فرأى جاره سلمان ورئيس البلديّة والمأمور وصديقه متحلّقين حول طاولة وهم يرتشفون القهوة. تقدّم قليلاً وأرهف السّمع، فسمع جاره سلمان يقول:
- لقد شككت بأمره عندما رأيته أكثر من مرّة يتلصّص على حديقتي.
ضحك رئيس البلدية حتّى أصابه السّعال فوضع السيجارة على المطفأة ثم مسح لعابه وقال:
- لقد نتفت ريشه ريشةً ريشةً، ولا أظنّه سيفكر في تربية الدّجاج مرّة أخرى.
ضحك الجميع وأضاف المأمور.
- بل أظنّ أنّه لن يأكل الدّجاج ولا اللّحوم مرّة أخرى، بل سوف يصبح نباتيًّا.
أحسّ شيخ الحي بالقهر حتّى كاد أن ينقطع نفسه، فخارت قواه وجلس بهدوء وأسند ظهره إلى جدار الحديقة وبدأ يلطم رأسه وهو يفكّر في مصيبته. ودخلت عليه زوجته مستفسرةً عمّا يحدث له، وبعد أن أخبرها بما حدث معه قالت له مستغربةً:
- وكيف تطلب العون من رئيس البلديّة ومن المأمور، ألا تعلم بأنّ رئيس البلدية هو شقيق زوجة جارنا سلمان! وأن المأمور هو والد خطيبة ابن جارنا سلمان …؟
وقبل أن تنهي كلامها انهار شيخ الحيّ وشرع يضرب كفًّا بكفّ وهو يحوقل غير مصدّق ما سمعته أذناه.
في اليوم التّالي استيقظ شيخ الحي باكرًا وحمل ما تبقّى من الدّجاج إلى السّوق وباعه بأجر زهيد، ثمّ عاد إلى البيت وعلّق إعلانًا على جدران البيت لبيع المنزل، ثم أخذ بعض الأغراض من المنزل وحمل زوجته وقصد العاصمة.
هي قصة هادفة تصور نوعا من أنواع الظلم وسبيل ذلك هي الرشوة فكثيرا من الناس اليوم وفي كل عصر يظنون ويعتقدون أن قضاء حاجاتهم لا ييتحقق إلا عن طريق الرشوة لا يفكرون إلا في أنفسهم فيسلبون حقوق غيرهم غير عابئين لا بحلال أو حرام ولا يشعرون بوخز الضمير وتأنيبه ماتت قلوبهم وتحجرت قلوبهم فهي أشد قسوة من جلمود الصخر ويساعدهم على غيهم هذا وطمعهم وجشعهم المسؤولون والموظفون المرتشون الذين يصطادون ضحاياهم بكل ما أوتوا من حيل الشياطين ومكر الليل والنهار مستغلين نفوذهم فقد فقدوا كل حس إنساني وكل شعور وطني وخانوا أمانتهم وشروا بعض فتاة من الحياة الدنيا بالآخرة واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فأنى لهم التوبة؟ وقد جبلوا على مثل هذا الخلق السيء.
هي حكاية مسلية في ظاهرها جادة في مضمونها ذات حبكة فنية وقصصية لا عوج فيها ولا أمتا .وقد تشفت الراوية من هذا الشيخ الذي فرط في دجاجه سدى وفرط في ضميره على غير هدى فخسر خسرانا مبينا ثم ختمت القصة بقهقهات السادة تمزق ما تبقى من فتات في ضمير الشيخ وترمي به أشلاء فغادر المكان وكأن لا مكان يؤيه فرفضته الأرض كما رفضته السماء. شكرا للأخت هذبة مرة أخرى تتحفنا بخيالها الواسع وأفكارها الهادفة وقلمها السيال أرجو لها التوفيق والسداد.