بقلـم: أ. الأمين الكحلاوي
“الإنْسانُ لا يسْتَطيع أنْ يكُون مُسْلمًا ويبْقى مُتخلّفًا” علي عزت بيجوفيتش
مقدمة:
سعت البشريّة منذ وجودها إلى تثمين الأشياء وتقويمها ووضع معايير وضوابط للسّلوك تنتظم من خلالها حياتها، وتتحقق من خلالها أهدافها. ولكنّها اختلفت في تحديد معايير القيمة وماهيّتها باختلاف ثقافاتها وشرائعها وعاداتها، ووصلت في بعض الأحيان إلى الصّراع والتّصادم. وحاول البعض فرض إرادته وأسلوب حياته ونظرته للأشياء والكون على الآخرين من خلال وسائل متعددة وشعارات مختلفة تحمل عناوين وشعارات مغرية وجذابة، ممّا دفع بالكثيرين إلى الأخذ بها وتبنّيها خاصّة من الشّعوب المغلوبة “فالمغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده “( ابن خلدون، ص 162).
وقد حاولت أن أدرس مسألة القيم من منظور الإسلام وأهم تطبيقاتها التّاريخية مقارنا إياها بمنظومة القيم في الغرب مبرزًا ما تتميّز به كلّ منظومة من خصائص ومدى صلاحيتها وشموليتها ومرونتها وفاعليتها في حياة الإنسان، وفي الحفاظ على التّوازن والانسجام بين الإنسان ومحيطه وبيئته، وفي علاقاته المختلفة مع نفسه ومع الآخر.
تعريف القيمة:
وردت كلمة “القيّم”ّ في القرآن الكريم أربع مرات صفة للدّين “الدّين القيّم”، ووردت “دِينًا قِيَمًا”، ووردت “كتُبٌ قيّمة” (فؤاد عبد الباقي، ص 593). وورد في لسان العرب القيمة: واحده القيم،أي ثمّن الشيء بالتّقويم. والملّة القيّمة :المعتدلة . و”ذلك الدّين القيّم” أي الأمّة القيّمة (ابن منظور ،500).
وفي “مفردات ألفاظ القرآن”: “ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّم” (الرّوم، 30)أي المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا ميْل عن الحق. “فيها كُتُبٌ قيّمة “أي مستقيمة تبيّن الحق من الباطل. “دِينًا قِيَمًا “: أي ثابتا مقوّما لأمور معاشهم ومعادهم. (الرّاغب الأصفهاني، ص 691). “فالقيم يجب أن تؤخذ من الدّين القيّم المستمد من الطريق المستقيم الموصل إلى الله وإلى كرامته في جميع شرائعه وطرقه”. (السعدي، ص 1335).
وأما محمد متولي الشّعراوي فيفسر “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ” (الأنعام، 161)، أي تقوم عليه مسائل الحياة وهو قائم بها .و”قِيَمًا ” مأخوذة من القيمة أو من القيام على الأمر أي باشره مباشرة من يصلحه ،كذلك جاء الدّين ليصلح للنّاس حركة حياتهم بأن أعطاهم القيم وهو قائم عليهم” (الشّعراوي، ص .4019.)
أما الكلمة التي تقابل لفظة القيم في اللّغة العربية فهي ما يعرف بالأخلاق، ذلك أن مصطلح “القيم” بمفهومه الحديث لم يتم تخصيصه بباب مفرد في كتب العلماء والمفكّرين المسلمين اعتقادًا منهم أن الدّين كلّه قيم.
والتّقويم له معنيان: تقويم الخلْقة وتقويم الخُلُق، وذكر سيد قطب في تفسير سورة التّين الآية :”لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” قائلا : “وتتجلى هذه العناية في خَلْقه وتركيبه على هذا النّحو الفائق سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقّة والتّعقيد أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الرّوحي العجيب …وَالتَّرْكِيزُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى خَصَائِصِهِ الرُّوحِيَّةِ. فَهِيَ الَّتِي تَنْتَكِسُ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ حِينَ يَنْحَرِفُ عَنِ الْفِطْرَةِ وَيَحِيدُ عَنِ الْإِيمَانِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَهَا.” (سيد قطب، ص 3932) .
فخَلْق الإنسان خَلْقٌ متكامل في كل أبعاده يستجيب لمهمّة التعمير التي كلّف بها على قاعدة قيم الاستخلاف، “فشرط أهلية الاستخلاف هو أن يجعل الإنسان وجودَه عبادةَ الله في استعماره للأرض بقيم الاستخلاف …فيكون المقصود بالعبادة هو تحقيق الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف اختبارا لهذه الأهلية (أبو يعرب المرزوقي، ص7و8). وقد شهد الله عز وجل لهذه الأمة الإسلامية بالخيرية فقال: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه (سورة آل عمران، الآية 110 )، وهذه الخيرية تتحقق إذا تمسكت بالدّين القويم واتبعت الصراط المستقيم فتكون بذلك أمّة متوازنة وسطا “وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمَّةً وَسَطًا “. (سورة البقرة، الآية 143).
مصادر القيم:
وكل حضارة إنّما تأسّست على منظومة قيم بعضها سماوي وبعضها وضعيّ. و” تعتبر القيم جزء هامّا في الإطار المرجعي للسّلوك في الحياة العامة وفي مجالاتها المختلفة دينيّا وعلميّا واجتماعيّا واقتصاديّا وسياسيّا وفنّيّا ” (إسماعيل عبد الفتاح، ص 10) .واختلاف القيم قد يصل في بعض الأحيان إلى التناقض أو التصادم مثل ما نظّر إلى ذلك صموئيل هنتغتون في كتابه صدام الحضارات. وعندما تم الفصل في الغرب إثر الثّورة على الكنيسة بين الدين والدولة حلّت المعايير المادية محلّ القيم الدينية، وصارت النظرة المادية هي المعيار المحدّد للعلاقات الاجتماعية وللقيم السائدة ، فحدث بذلك في الغرب نوع من الصراع بين بُعْدي الإنسان المادي والروحي، فصار الإنسان في الغرب تتجاذبه سلطتان منفصلتان دينيّة مسيحيّة وزمنيّة مادية عقلانيّة. وفي حقيقة الأمر ” لا يستطيع الإنسان أن يحيا وفقا لعيسى ولا أن يحيا ضدّه، وكل قدر الإنسان على هذه الأرض أن يأخذ موقعًا بين هاتين الحقيقتين المتضادّتين، ومن هنا جاءت أهمّية الإسلام باعتباره الحلّ الأمثل للإنسان لأنه يعترف بالثنائية في طبيعته. وأيّ حل مختلف يغلّب جانبًا من طبيعة الإنسان على حساب جانبه الآخر من شأنه أن يعوق انطلاق القوى الإنسانية أو يؤدي إلى الصراع الدّاخلي، إن الإنسان بطبيعته الثنائية أكبر حجة للإسلام” (علي عزت بيجوفيتش، ص 318 ).
فمصدر القيم في الإسلام هو الوحي الإلهي ،بينما مصدر الشرائع والقوانين الوضعيّة والقيم في الغرب هو العقل البشري، والعقل ليس مطلقًا ولا يحيط علمه بكلّ شيء، فمعرفته نسبيّة وظرفية ومحدودة وقاصرة. فنظرة الغرب اليوم إلى القيم هي نظرة تتأسّس على اللّذة والمنفعة، يقول مانع المانع متحدّثا عن مصادر القيم في الغرب: “تصدر عن العقل القاصر وإما عن المنفعة الذاتية الزّائلة مع اختلاف في نظرتهم لتلك الأسس وعدم اجتماعهم على أسس موحّدة” (مانع المانع، ص 151 ).
أمّا في الإسلام فالقيم مطلقةٌ ومسلّم بها من قبل المسلم، لا تتغير بتغير الزّمان والمكان. وسلطة هذه القيم وهيمنتها متأتية من قوّة مصدرها وهو القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مما يجعلها مقدّسة تدفع متبنّيها إلى التّمسك بها طواعية وعن اختيار، في حين يسهل خرق القيم الوضعيّة وتجاوزها والتفلّت منها خاصة في غياب وازع الدّين أو الرقابة أو وازع السّلطان. أمّا المسلم فرقيبه الوازع الديني والضمير. وهذه القيم الإسلامية الرّبانية تنعكس تأثيراتها في جميع المعاملات الأخرى يقول القرضاوي :”إنّه (الإسلام) لا يجيز أبدا تقديم الأغراض الاقتصاديّة على رعاية المثل والفضائل التي يدعو إليها الدّين، على حين نجد الأنظمة الأخرى تؤْثر الكسب الاقتصادي ولو على حساب الأخلاق ومقتضيات الإيمان “، (القرضاوي، ص57).
والقيم في الإسلام منظومة متكاملة ومترابطة وشاملة لكل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية، تهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وتقوم على منطلق عقدي بالأساس، وتراعي في تطبيقاتها البعد الواقعي والعلمي، فلا يمكن أن تتعارض مع السّنن الكونية الطبيعيّة، يقول ابن خلدون :” إنّ الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له ” (ابن خلدون، ص 512) ولن يبلغ الإنسان مرتبة السّيادة على الكون وعلى نفسه إلا بضبط ميوله ورغباته وإرادته وحاجاته وفقا للمثل وللقيم الإسلامية العليا.
فالتّشريع والتقنين لحياة الإنسان والشّعوب والمجتمعات والأمم مسألة معقّدة تحتاج إلى حكمة بالغة وعقل مدرك عارف باحتياجات هذا الكائن البشري وإمكاناته، وملم بخصائصه النفسية وقدراته الذهنية وعالم بما يصلح له وما لا يصلح في الحال وفي المسار والمآل. فما من مشرّع ومقنّن من الناس إلا وهو خاضع لمقاييس الذات ومزاجها، ويصدر عن فكره ووعيه بما يخدم مصلحته الذّاتية الخاصة وغايته الظرفية، وربما بما تحدده له الجماعة الضّيقة في مكان ما وزمان ما. فالقيم موازين تنتظم من خلالها حياة الفرد والجماعة وتقاس بها حركة الإنسان في الكون: “إن القيم صفات أو مثل أو قواعد تقام عليها الحياة البشرية فتكون بها حياة إنسانية تُعايَر بها النظم والأفعال لتعرف قيمتها الإنسانية من خلال ما تتمثّله منها ” ( عبدالرحمان الزنيدي، ص 462″).
وطبيعي أن تتعدد المصالح وتختلف فتصل أحيانًا إلى حد التّصادم باعتبار الخصوصيات الفردية والخصوصيّات الحضارية واختلاف الأمزجة و تفاوت الوعي وتعدّد الغايات وتنوع الأهداف وتفاوت التقديرات، وقد يخطئ الإنسان الهدف المقصود فيكتشف بعد فوات الأوان قصور نظره وأنه بعيد عن تحقيق المراد، ولا أدلّ على ذلك من تغيير الدّساتير وتعديل القوانين واستدراك النقائص في التشريع، خاصة عندما تطرأ على المجتمعات طوارئ لم تكن في الحسبان كالحروب والجوائح. وإذا أضفنا إلى ذلك النزعات الفرديّة والغريزية والنّفسية والأبعاد الإيديولوجيّة فإنّ الأمر يزداد تعقيدًا وصعوبةً، لذلك ما من فكر بشري حاول أن يشرع لمصلحة الجميع إلا واصطدم بالآراء المخالفة له وقوبل بالصدّ والإنكار، فينشأ تبعا لذلك الصراع والتنازع والجدل، فيضطر الناس إلى وضع أرضية قانونيّة للتّعايش كالدّيمقراطية مثلا باعتبارها إحدى الصّيغ لحل الخلاف وتجنّب الصراع. وقد يتطور الأمر إلى النزاع و التّقاتل والحروب، والأمثلة على ذلك كثيرة . فمن هو القادر على الاستجابة لمتطلبات الإنسان في سنّ قوانين عامة وكلية شاملة لا تصطدم بجوهر الإنسان وحقيقته وتحقق التّعايش السلمي بين النّاس وتحترم التّنوع الثقافي والخصوصية؟
قيم الإسلام والإنسان:
أمّا النّاظر في قيم الإسلام نظر الممعن المدقّق فسيدرك حقيقة هذه القيم ومدى استجابتها لحاجات البشر على اختلافهم “لقد خلق الله الإنسان وجهّزه بالقوى المادّية والمعنويّة اللاّزمة للقيام بحقّ هذه الخلافة وعمارة الأرض على أساس من الصّلة بالسّماء”. لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين، والرحمة تتجلى في تخفيف المعاناة والقضاء ما أمكن على المنغّصات والشرور والأضرار والخسائر، وتجنب الصراع والتنازع والتقاتل. فتأسّست دعوة الإسلام على نشر السّلام في العالم، فكانت تحيته السّلام ليعمّ الأمن والاطمئنان والمحبة. وكذلك كل تعاليمه تهدف إلى خير الإنسانية جمعاء، ومنهجه هو أفضل منهج فقد قال تعالى: “إنّ هذَا القُرْآن يَهدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَم “(سورة الإسراء، 9). و”أقوم” صيغة تفضيل مطلق تعني الأقوم في كلّ شيء، وقد ورد في تفسير الصابوني لهذه الآية قوله :”أي إنّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السّبل ولما هو أعدل وأصوب” (الصّابوني، ص 141).
وفي تفسير ابن عاشور: الأقوم، فيه إيماء إلى ضمان سلامة أمّة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم لأنّ القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل، ولا يغادر مسلكًا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضا أو تحذيرًا، بحيث لا يعدم المتدبّر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السّابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقوم من الطّرائق الأخرى، وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة “.
فمن أخذ بالأقوَم في كلّ شيء وِفقَ ما حدّده القرآن الكريم سيهتدي إلى سبل التّقدم والسّعادة ويحقق النّمو والازدهار المادي والرّفاه، وينال الفوز في الدنيا من خلال التّمكين في الأرض، وينال الفوز في الآخرة. يقول عزت بيجوفيتش: “الإنسان لا يستطيع أن يكون مسلمًا ويبقى متخلفا” (علي عزت بيجوفيتش، ص 310).
وقد اعتبر الإسلام مصلحة الإنسان، فلم يشرع شيئا يصادم الفطرة البشرية “وما كان الله جلّت حكمته ليفطر الإنسان على طبيعة معيّنة ثمّ يشرع له من النّظم ما يناقض هذه الطبيعة ويستأصل هذه الفطرة، وبذلك يناقض خلقُه أمرَه ويعاند شرعُه قدَره، وتعالت حكمة الله عن ذلك علوا كبيرا” (القرضاوي، ص 35). فهي قيم متماشية ومنسجمة مع خصائصه الخلقية النفسية والجسدية، ولذلك كانت قيمه كونية ومبادئه إنسانية متناسبة مع قدرات البشر ورغباتهم وإمكاناتهم ،ولو أخذ بها غير المسلم لاستقام أمره في الدنيا. فتحقيق مصالح العباد مرتبط بالمحافظة على المقاصد الكبرى كما ضبطها العلماء وهي الكليات الخمس النسل والنفس والعقل والمال والعرض وكذلك قيمة الحرية الذي اعتبره ابن عاشور أصلا من أصول الشريعة.
ارتباط العبادات بالقيم:
إن كل تشريع بشري محكوم بمصلحة ما ومقصور على تصوّر الإنسان للأشياء من منظوره الذّاتي الخاص، ومهما بلغ من التجرّد من الهوى فلن يستطيع أن يلبّي كلّ الرغبات، فيقع حينئذ التنازع حول تقدير المصلحة وسبل تحقيقها، وأمّا الله عز وجل فقد تنزه عن الهوى والمصلحة، فهو خالق الإنسان وهو أعلم بما يُصلحه وما يصلُح له “ولذا فإن الإسلام لا يكلّف الإنسان فوق ما تطيقه طبيعته ولم يدفعه إلى التّصادم مع قوانين الحياة حتى لا يهلك نفسه” (مانع المانع، ص79 )، بل وضع قوانين استثنائيّة لأوضاع استثنائيّة، فأحلّ بعض المحرمات كشرب الخمر لمن اشتدّ به العطش حدّ الموت ولم يجد ما يشربه سوى الخمر، وأحلّ لمن اشتد به الجوع وكاد أن يهلك ولم يجد ما يأكله سوى الميتة أو لحمًا محرّما أن يتناوله بقدر الضّرورة، قال تعالى :”إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ” (سورة البقرة، الآية173) وفق القاعدة الفقهيّة التي تقرّ بأن الضرورات تبيح المحظورات. وقد ترك للمجتهد تقدير الأمور وفق الوقائع والظروف التي يعيشها المكلّف، فتنطبع الفتوى بخصوصيات المكان والشّخص والزّمان والحال التي تكتنف الشخص من سلم أو حرب، ومن صحة أو مرض وغيرها على أن لا تخرج الفتوى و لا يبتعد الاجتهاد عن دائرة الشّريعة الإسلامية وحدودها ومقاصدها العامة. ويقول الدّكتور مانع المانع: “الاجتهاد في الإسلام دليل قويّ على قابلية أحكام الإسلام لمواجهة كلّ التّغيرات والاختلافات والوقائع، وهو دليل كذلك على شموليّة شريعة الإسلام ومرونتها وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان” ( مانع المانع، ص 306.).
ولذلك يمكن القول إنّ قيم الإسلام كالحرّية والعدل والمساواة والتّضامن والتعاون والتّعارف والعدل والرّحمة وغيرها هي قيم كونية جاءت لجميع البشر، وقد حرص الإسلام على تحقيقها، بل واعتبر أن قبول العبادات الشعائريّة كالصلاة والصيام منوط بصحة العبادات التعامليّة. فالإيمان مرتبط بالعمل الصالح في أكثر من خمسين موضعًا باعتبار أن الإيمان يمثل جانب الدّين والعقيدة، ويمثل العمل الصالح الجانب الأخلاقي. فهما يسيران معا فلا تفريق بينهما “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (سورة العصر، الآية 2)، وقوله:” إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ “(سورة التين، الآية 4).
فقيم الإسلام جاءت لتُطبّق لا لتبقى نظريّة بعيدة عن الواقع “كبر مَقْتًا عِندَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون” (سورة الصّف، الآية ). بل إنّ أعظم عبادة، وهي الصّلاة تصبح بلا معنى إذا لم تنعكس القيم التي تغرسها في أنفسنا على أرض الواقع وتُصبحَ أداة تغيير إيجابي قال تعالى: “ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ” (سورة العنكبوت، الآية 45).
وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعًا: “مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا”. وكذلك عبادة الصيام “من لم يَدع قولَ الزّور والعَملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يَدع طعامَه وشَرَابه “(رواه أبو هريرة)، وكذلك في الحج قال تعالى: “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ” (سورة البقرة، الآية 197). وتصبح مسألة التّغيير نحو الأفضل منوطة بتغيير الذّات من الدّاخل، وذلك بالإيمان بتلك القيم والعمل على تطبيقها شرطا لقبول الإيمان وسببًا للتّمكين في الأرض ولهيمنة الدين وانتشار قيمه بين النّاس من أجل التّغيير الايجابي وتحقيق مهمّة المسلم في هذا الوجود : “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (سورة الرّعد، الآية11 ).
نماذج من قيم الإسلام:
نضرب هنا نماذج معيّنة تكون أمثلة لقيم الإسلام التي كان لها الأثر الايجابي في حياة الإنسان المسلم وشعّت فضائلها على غير المسلمين :
قيمة العدل: العدل هو أساس العمران، والتّعمير أحد أهداف المسلم خليفة الله في الأرض، فأنزل الله تعالى القرآن والميزان من أجل إحقاق الحق ونشر العدل، لا بين المسلمين فقط بل العدل مع غير المسلمين كذلك، قال تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (سورة المائدة، الآية 8). ولنا في سيرة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أمثلة ناصعة في تطبيق العدل في تاريخ الإسلام، فقيمة العدل قيمة عامة تشمل كلّ المجالات كالعدل الاجتماعي والعدل السّياسي والتّوزيع العادل للثروة “والعدل هو إقامة الحق …وهو من الأسس التي قام عليها إعمار الكون وصلاح العباد واستقرار المجتمع وثبات الحكم واستقرار الأمور” (إسماعيل عبد الفتاح، ص 81 ).
قيمة الحرية : وهي حقّ للبشرية جمعاء يقول ابن عاشور : “والحرية بهذا المعنى حقّ للبشر على الجملة لأنّ الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية وخوّله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة “( ابن عاشور، ص 16). ولمّا طبق المسلمون هذا المبدأ مع بعضهم البعض، وخاصة مع مخالفيهم انتشر الإسلام ودخل فيه الناس أفواجًا، ففي البند 25 من وثيقة المدينة التي كتبها الرّسول عقب هجرته ما نصه “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم…”، ولم يفرض الإسلام على الشّعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: “إنّ العرب لم يفرضوا على الشّعوب المغلوبة الدّخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتّعصب الديني وأفظعها سمح لهم جميعًا دون أيّ عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسّوهم بأدنى أذى”( زيغريد، ص 364)، ولنا كذلك في العهدة العمرية مع أهل إيليا خير مثال على حقّ المواطنة واحترام الاختلاف تأصيلا لمبدأ حرية العقيدة.
قيمة العلم: هو طريق الإيمان وداعي العمل، وهو الخاصية التي ميزت الإنسان عن سائر المخلوقات، ويعتبر الإسلام العلم فريضة، فالله لا يُعْبد إلا بعلم. وقد دعا القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى الـتأمل العقليّ في الوجود ليستدلّ الإنسان على وجود الله عز وجلّ وليكتشف حقائقه ويسخره لفائدته، فحث على النّظر في الموجودات فقال عزّ وجلّ “أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ” (سورة الغاشية 17-20) .وقال: “أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ” (سورة ق، الآية 6) وقال تعالى: ” قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ” (سورة العنكبوت الآية، 20).
وتكثر في القرآن الكلمات التي تحيل على العقل والعلم مثل “يعلمون” و “يعقلون” و”يتفكرون” و”يتدبّرون”. وقد اعتبر الإسلام الملاحظة أوّل مرحلة في بلوغ العلم التّجريبي، يقول علي عزت بيجوفيتش: “إنّ الشّرط المسبق لكلّ تقدم اقتصادي واجتماعي هو التّغيير في وجهة التفكير والتحول من التّجريد إلى التعيين من العقلي إلى التّجريبي، من الركود إلى الإبداع “(علي عزت بيجوفيتش، 309) “. إضافة إلى عدد كبير من الآيات العلمية التي تناولت مختلف العلوم الفلكية والجغرافية وخلق الإنسان وغيرها. فالقرآن لا يتصادم مع العلم ولا يناقضه، فالحقيقة العلمية الثابتة والحقيقة القرآنية يصدران من معينٍ واحدٍ. وأورد محمد عمارة في كتابه “مقام العقل في الإسلام ” شهادة المستشرق الفرنسي الذي ترجم القرآن إلى العربية قوله: “إن الإسلام في جوهره دين عقليّ …إنّ لدين محمد كل العلامات التي تدل على أنّه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل”.
قيمة الأخوة: اعتبر الإسلام المؤمنين كلّهم إخوة بغض النّظر عن لغاتهم وأجناسهم وألوانهم وأوطانهم: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (سورة الحجرات،10)، فوحّد بين النّاس وجعل من مقتضيات هذه الأخوة التّضامن والتعاون والمحبة، قال صلى الله عليه وسلم :” لا يُؤمن أحدُكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري ومسلم)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به” ( رواه الطبراني والبزار) وأدخل الإسلام في دائرة الجوار الذمّيَ باعتباره مواطنا له حقوق وعليه واجبات . وجعل الإسلام من العطاء والبذل في سبيل الله قربة وعبادة، وقرن بين الصلاة والزكاة وحثّ على الصدقات ،وضاعف الأجور والثواب على الإنفاق أضعافا مضاعفة تشجيعا على التضامن وسعيا لتحقيق العدالة الاجتماعية.
القيم والعولمة :
العولمة في كلّ تعريفاتها تهدف إلى تعميم نمط حضاريّ معيّن يشجّع على القيم الاستهلاكية، وهي نظام عالمي يشمل مجالات المال والاقتصاد والإيديولوجيا، تهدف إلى الهيمنة على العالم وخاصّة الدّول النّامية من خلال التّرويج لقيم العالم الغربي وعاداته وثقافاته، فتقضي بذلك على الخصوصية والذاتية، وهي اختراق للعالميّة وتمييع لها خدمة لمصالح الدّول العظمى والشركات الاحتكارية الكبرى ،يقول رجاء جارودي: “العولمة هي نظام يُمَكّنُ الأقوياء من فرض الدّكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التّبادل الحرّ وحرية السّوق”( رجاء جارودي، ص 129):”، وأما صموئيل هنتجتون فيقول “العولمة هي ايديولوجيا الغرب لمواجهة الثقافات غير الغربيّة “(هنتجتون، ص 109) ويُنظّر هذا الكاتب للصّدام بين الحضارات فيقول : “ميزان القوى المتغيّر بين الحضارات وبين دول المركز هو أيضًا أحد المصادر الخطرة لحرب كونية” ( هنتجتون، ص507 ).
فالعولمة إذن بيّنت من خلال تطبيقاتها العمليّة أنّها قائمة على اختلالات كبرى وتناقضات عميقة فتعامل، أصحابها مع بعض الشّعوب بمعايير مزدوجة فيصمتون عن حرية بعض الشّعوب ويغمضون أعينهم عندما يتعلق الأمر بالشّعوب المستضعفة، وخاصة المسلمة كالبوسنة والهرسك سابقًا وفلسطين ومسلمي الرّوهينجا ومسلمي مقاطعة الإيغور بالصين والأوضاع في ليبيا واليمن وسوريا وأوضاع اللاجئين، ففقدت بذلك بعض الشّعارات التي ينادون بها معناها مثل كرامة الإنسان وحق الاختلاف وحرّية الشّعوب في تقرير مصيرها واختيار من يحكمها والنظام الذي ترتئيه، يقول مهدي المنجرة متحدثا عن العولمة : “كان المعنى المعطى لهذا النوع من النّظام على نقيض تام مع الدلالة التي يحملها حاليّا، والتي لا تترك أيّ مكان للحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والسّلم، فالكرامة من الآن فصاعدًا لفظ لا قيمة له لأنه أمام محاولات العولمة حيث لا خيار سوى الخضوع والانحناء والرّكوع أمام رؤوس الأموال، وأمام السّادة الجدد لما يسمى بالنّظام الكوني ” (المنجــــرة، ص88 ).
مواقف بعض الغربيين من الإسلام وقيمه:
اختلفت مواقف المفكّرين والفلاسفة الغربيّين من الإسلام وقيمه، فمنهم من كان منحازًا للإيديولوجيات السّائدة في الغرب، والتي لا تعترف بدور الحضارة الإسلامية في البناء الحضاري، ومنهم من كان منصفًا وموضوعيّا، فأبرز دور الإسلام الفعال والايجابي في صناعة حضارة راقية من خلال قيمه ذات البعد الإنساني الكوني، ونذكر بعضا من أمثال هؤلاء المنصفين : (نقلا عن كتاب قالوا عن الإسلام عماد الدّين خليل).
_ كوستاف لوبون، طبيب ومؤرخ فرنسي: “إنّ أصول الأخلاق في القرآن عالية علوَّ ما جاء في كتب الدّيانات الأخرى جميعا” (ص 86).
_ بنكمرت بريشا، من تايلند: “الإسلام دين السّلام والمساواة والحرّية والإخاء والكرامة والعزّة، يظهر ذلك جليّا في أحكامه ومبادئه وآدابه” (ص 160).
_ مارسيل بوازير: “إن من حق المؤرخ أن يعرف أسس ثقافة دينيّة المرتكز وسمت تطور الإنسانية بميسمها، ولم تزل حتّى اليوم مرجعًا خلقيّا وسياسيّا لملايين البشر” (ص 162).
_ديبورا بوتر: “هذا اللّغز المتكامل هو الإسلام الذي أحدث ثورة في العالم بما قدّم له من نظام شامل للحياة الخلقية والاجتماعيّة ونظام الحكم والنّظام الروحي للإنسان ” (ص 163).
_ ليوبولد فايس: “إنّ الإسلام دعوة خالدة إلى التقدّم المطرد في كلّ نواحي الحياة الفكرية والرّوحية والسياسية على حد سواء” (ص 207 ).
وغير هؤلاء كثير ممن اعترف وشهد برفعة القيم الإسلامية وأنّها إنسانية كونية شاملة للحياة كلها، ومنهم من استدلّ على دور المسلمين في صناعة الحضارة الإنسانية ومساهمتها الايجابية في ميدان العلوم والمعارف المختلفة ومن بين هؤلاء زيغريد هونكه تقول “… إنّ الغرب بقي في تأخره ثقافيّا واقتصاديّا طوال الفترة التي عزل فيها نفسه عن الإسلام ولم يواجهه، ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلاّ حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيّا وعلميّا وتجاريّا، واستيقظ الفكر الأوروبي على قدوم العلوم والآداب والفنون العربيّة من سباته الذي دام قرونًا ليصبح أكثر غنى وجمالاً وأوفر صحّةً وسعادةً” .(زيغريد هونكه، ص54).
وهكذا إذا نظرنا إلى الإسلام في أنظمته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نجده قائما على قيم تحفظ للإنسان كرامته وحريته وحياته ولاتنتهك حقوقه ولا تتعدى على خصوصياته وتدعوه للتعايش مع الآخر والتواصل معه بهدف التعاون وتبادل الخبرات والتعارف يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات، الآية 13)، يقول ابن عاشور في تفسيره: “وجعلت علّة جعل الله إياه شعوبا وقبائل، وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف النّاس، أي يعرف بعضهم بعضًا، والمقصود: أنّكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتُم اختلاف الشّعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحُن وعدوان .والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بثّ التّعارف والتّواصل بين القبائل والأمم وأنّ ذلك مراد الله منهم”. (ابن عاشور، ص258).
فقيم الإسلام لا تصطدم بالطّبيعة ولا بالعقل ولا بالعلم ولا بالواقع، ولذلك استطاعت الكونيّة الإسلاميّة التّعايش مع الآخر المخالف، معترفةً بالخصوصيّات ومحترمةً لها، محاولةً التّفاعل معها ما أمكن وتكييفها لتتلاءم مع متطلبات الشّريعة أو تركها على حالها بشروط ومواثيق وعهود خاصّة في البلدان التي فتحها المسلمون. فالكونيّة الإسلاميّة منفتحة على كلّ ما هو عالمي بأبعاده الحضاريّة والإنسانيّة. وتقوم على الحوار والجدال بالتي هي أحسن ، لا على الصّدام والصّراع. فالإسلام لم يأت ليتصادم مع الكون.
الخاتمة :
هكذا تستمدّ قيم الإسلام وجاهتها وقوّتها وثباتها من خلال ملاءمتها لصريح المنطق والمعقول، ومن خلال مطابقتها للفطرة البشريّة ومراعاتها لطبيعة الإنسان، ومن خلال مرونتها في تطبيق مفاهيمها على الواقع. وشريعة الإسلام المصدر الأساسيَّ لهذه القيم شريعة حاولت منذ وجودها تحقيق التّوازن في الحياة حتى لا يطغى جانب على آخر، ولا يطغى الإنسان على أخيه الإنسان، وتلك غاية رسالة الإسلام، فهي على حدّ قول ابن قيم الجوزيّة ” مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلها” (ابن قيم الجوزية، ص 374 )”.
فقيم الإسلام عالمية شاملة لكلّ مناحي الحياة، تستغرق الأزمان كلّها ومهيمنة على كلّ تفاصيل حياة الإنسان، فلا فصل بين الروحي والمادي، ولا بين الفردي والجماعي، ولا بين النظري والتّطبيقي، ولا بين القول والفعل، ولا بين الدّنيوي والأخرويّ، بل وحدة بين الدّين ونظام الاجتماع البشري. فالحياة في الإسلام تتكامل فيها الرّغبة في تحقيق السّعادة الدنيوية والأخروية والرّغبة في الكمال الأخلاقي.
إن منهج الإسلام في الحياة قائم على منظومة قيم ومبادئ تستوعب جميع التغيّرات وقادرة على التفاعل معها دون أن تتعارض مع الهدف الرئيسي لرسالة الإسلام. ودعوة الإسلام دعوة عالميّة تقي الإنسان الضّلال في كل معانيه :الجهل والتّخلف والفقر والتّبعية والأزمات والفساد والاستبداد. قال تعالى : “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (سورة النساء، الآية176).
ويبقى على البشريّة اليوم، حتى تخرج من أتون الصّراعات والحروب وتدفع عنها غوائل الظّلم والتّسلط والنّهب والإذلال أن تفكّر جيّدًا في مآلات أفعالها ونتائج سياساتها على الإنسان والبيئة والمحيط، وعليها أن تعيد النّظر في أفكارها ورؤاها وفلسفتها في التّعامل مع الوجود، وعليها أن تدرك أن احترام قيم الآخرين شرط أساسيّ لتحقيق التّواصل والتفاعل الإيجابي والبنّاء بين الشّعوب والثّقافات.
المصادر :
القرآن الكريم
_كتب الأحاديث
- ابن خلدون، عبد الرّحمان: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر…،دار الجيل،بيروت ،د . ت.
- ابن عاشور، محمد الطاهر: التّحرير والتّنوير، الدّار التّونسية للنشر، تونس 1984.
- ابن منظور،محمد بن مكرم: لسان العرب، دار صادر بيروت ، ط 1 ، 1130 ه
- عبد الباقي ،محمد فؤاد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مطبعة دار الكتب المصرية،القاهرة، 1945م \
- الرّاغب الاصفهاني :مفردات ألفاظ القرآن الكريم، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم ،ط 4 ،دمشق، 2009م
- السعدي، عبد الرّحمان بن ناصر: تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنان،ج 3، دار ابن الجوزي للنّشر والتّوزيع ، الرّياض، ط 1 ،1422 هـ
- سيّد قطب، في ظلال القرآن ، ج 6، دار الشّروق، ط 32، مصر، 2003.
- الصّابوني، محمد علي: صفوة التّفاسير، ج 2 ، دار مكتبة الهلال، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ،2002 م
المراجــــــــع:
- ابن عاشور، محمد الطاهر: أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام ، الشّركة التّونسيّة للتّوزيع، تونس، ط 2، 1985
- الجوزية، ابن قيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 3 ،دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع،الرّياض، السّعودية، ط 1 ، 1423هــ
- الشّعيبي، أحمد قائد: وثيقة المدينة المضمون والدّلالة، كتاب الأمة، وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، العدد 110 ذو القعدة 1426ه السّنة الخامسة والعشرون، قطر ،ط 1 ، 2005 م
- إسماعيل عبد الفتاح : القيم السياسية في الإسلام، الدّار الثقافية للنشر، القاهرة، ط 1، 2001
- جارودي، روجي: العولمة المزعومة ،دار الشوكاني للنّشر والتّوزيع، صنعاء ،1998
- الشّعراوي ،محمد متولي : خواطري في تفسير القرآن ،المجلد 7 ،مطبعة دار أخبار اليوم، مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر، الإدارة العامة للبحوث والتأليف والترجمة، مصر، 1991
- الزّنيدي، عبد الرحمان بن زيد: السلفية وقضايا العصر، مركز الدراسات والإعلام، دار اشبيليا للنشر والتوزيع، الرّياض ، ط1، 1418هـــ / 1998 م،
- بيجوفيتش، علي عزت : الإسلام بين الشرق والغرب، مؤسسة العلم الحديث، بيروت، ط1، 1994
- المانع، مانع: القيم بين الإسلام والغرب، فصل أسس القيم في الفكر الغربي المعاصر، دار الفضيلة، الرياض، السّعودية، ط 1 ،2005م،
- عمارة، محمد: مقام العقل في الإسلام، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،القاهرة ،ط 1 ،2008
- المرزوقي، أبو يعرب: “إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف “، الأسماء والبيان، الفصل الثاني، تونس، 8فيفري 2018
- المنجرة، مهدي : قيمة القيم، مطبعة النّجاح الجديدة ، المغرب ط 2 ،2007
- خليل، عماد الدين: قالوا عن الإسلام ،النّدوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، ط 1 ،1992
- القرضاوي، يوسف: دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الاسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1995 ، ط1، 1418هـــ 1998 م.
- هنتجتون، صموئيل: صدام الحضارات، مركز روكفيلر، نيويورك ،ط 2 ،1999