بقلم: أ. الأمين الكحلاوي
مقدمة
إن المتدبر في القرآن الكريم يلاحظ أن العديد من الآيات تحدّثت عن الميزان والموازين والقسط والقدر والاعتدال والوسطية بل إن القرآن يصرح بان هذه الأمة تميزت عن غيرها بكونها أمة وسطا قال تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا” [1]. والوسط معناه الأفضل في كلّ شيءٍ لأنّ تشريعاته وأحكامه كلّها لا تتصادم مع أيّ بعد من أبعاد الإنسان النّفسيّة والجسديّة والعقليّة، ولا تتصادم مع سنّة التّطور، بل تحثّ على العلم والعمل وتمجّد العقل والعمل والتّفكير والتأمّل. بل جعلت التدبّر من أعظم العبادات. فالموازين والمكاييل والمقاييس هي مقادير وضعها الإنسان ليضبط بها التّعاملات المادّية تحقيقًا للعدل، وكذلك توزن أعمال العبد يوم القيامة بموازين أشدّ دقةً لا تظلم شيئًا، ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة تحقق أصلاً من أصول العدل، والجزاء والحساب، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى في: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” [2].
الاتزان في الكون
وهذا التّوازن نلاحظه في الكون ونظامه وفي خلق الإنسان ومكوّناته، فخالق الأكوان هو خالق الإنسان وهو منزل القرآن ومشرّع الأحكام فقال: “والسَّمَاءَ رَفَعَها وَوضَع المِيزَان أَلاَّ تَطْغَوا فِــي المِيزَان وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ”[3].
إنّ الكون كلّه يتحرّك بميزان ومحكوم بميزان: “إنّا كُلّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقَدَر” [4]، فكلّ الأفلاك تسبح دون اصطدام فإذا أردنا أن تستقيم أمورنا الاختياريّة فلننظر إلى الأمور الإجباريّة المسيّرة كالأكوان حولنا، فإذا عدلنا في أمورنا الاختياريّة تستقيم أمورنا في حياتنا كلّها. فإن رأيت أيها الإنسان كونًا حولك غير متصادم رغم أنّ كل الكواكب تسبح في مداراتها “وكل في فلك يسبحون ” [5] فافهم أنّه قائم على ميزان الحق، والله وضع لنا ميزانًا في حياتنا وطلب منّا إقامة الوزن بالقسط فقال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”[6]، وقوله تعالى: ” وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ”[7]. فالعدل أساس العمران والظّلم مؤذن بخراب العمران على حدّ عبارة ابن خلدون في كتابه المقدّمة من الفصل الثّالث والأربعين، وأنّ “العدل الميزان المنصوب بين الخليقة ” [8] و” …أنّ الظّلم مخرّب للعمران” [9]
فالوجود كلّه الجماد والنّبات والحيوان والإنسان قائم على التّوازن قال تعالى: “وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا”[10]، وقال تعالى: “وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلّ شَيء مَوزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِش وَمَنْ لَسْتُمْ لَه بِرَازِقِينَ، وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ” [11]. ويمكن أن نلمح التوازن في كل شيء، فالإنسان مثلا خلق بميزان وتناسب عجيب، فكان في أحسن تقويم وأحسن صورة: “لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَن تَقْوِيم” [12]. فخلقه متوازن في أبعاده الجسديّة طولاً متناسبًا مع عرضه حتى لا يفقد توازنه فيقدر على الوقوف مستقيمًا ويقدر على المشي والحركة. وكذلك حجمه متناسب مع كتلته ووزن رأسه متعادل مع هيكله. فبهذا التّقدير والتّوازن خلق الإنسان، حيث جعله حسن الصّورة، منتصب القامة، متناسب الجسم، سوي الأعضاء ، وجعل أعضاءه الثنائية على بعد متناسب، فلو انحرف عضو عن موضعه المتناسب لاختل توازنه وذهب حسنه.
فالتوازن قانون في الطبيعة وفي الكون كله ونلمح هذا في توازن الأبعاد بين الكواكب والنجوم وكل الأفلاك. فالكون متوازن فلا بدّ أن يكون الإنسان متوازنًا، وهو أحد عناصر الكون وأهمها على الإطلاق، فقد سخرت له كلّ الأكوان ليقوم بمهمّة تعمير الكون وفق قيم الاستخلاف التي أشار إليها القرآن ووفق منهج الصّراط المستقيم ليس فيه عوج ولا خلل.
الاتزان في شخصيّة المسلم
إنّ توازن الإنسان وانتظامه مع عناصر الكون يسهل عليه القيام بمهمة الاستخلاف، فكلما كان منسجمًا ومتوازنًا مع نفسه ومع نداء الفطرة ونداء الايمان، وكان منخرطا مع أنظمة الكون سعد في الدّنيا والآخرة. وإذا تأمّلنا في أحكام الصّلاة وهيأتها سنرى هذا التّوازن والاعتدال عند القيام وعند الرّكوع والرّفع منه والسّجود والجلوس، كلّها يجب أن تكون بميزان وإلا بطلت هذه العبادة. وهي موزونة بميزان القبلة أينما وجدت في أي نقطة من الكرة الأرضية. وكذلك يطلب منّا عند إقامة الصلاة جماعة الاستواء والاعتدال والتكاتف والالتصاق صفوفًا مرصوصةً مستويةً على خط واحد وفي اتجاه واحد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل[13]. فإذا خرجنا من المسجد وخالطنا الدّنيا احتككنا بالنّاس كانت تلك الاستقامة ميانًا لنا في المعاملات. فلا تصح إذن شعائرنا التعبدية حتى تصح عباداتنا التّعاملية .
وقد دعانا القرآن إلى تحقيق التّوازن بين الجانب المادي والجانب الرّوحي، فلا يطغى جانب على جانب ودعانا إلى التوازن بين الظاهر والباطن وبين السّر والعلن وبين القول والفعل فقال “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما تفعلون”[14]. وحارب الإسلام النّفاق والمنافقين حفاظًا على المجتمع المسلم من الاختلالات والاختراقات والتّلبيس والغش. والايمان هو الذي يحقّق التّوازن في شخصيّة المسلم: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب “[15]، ويجب أن تكون علاقته بربّه مبنية على ثنائية الخوف والرّجاء.
فالتّوازن في إدراك ذاته العليّة عزّ وجلّ يجعلك شخصيّة منتبهة حذرة يقول تعالى: “نَبّئْ عِبَادِي أنّي أنَا الغَفُور الرّحِيم وأَنَّ عَذَابي هُوَ العَذَابُ الألِيم”[16]، فلا نيأس من رحمة الله ولا نأمن مكر الله. أمّا في علاقة الفرد بغيره من النّاس فيجب أن تبنى على توازن الحقوق والواجبات، على أن لا تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة أو الأمة.
وكذلك حافظ الإسلام على غريزة حبّ التّملك، ولم ينزعها منه كما في الأنظمة الشّيوعية ولم يلزمه بالملكيّة الجماعيّة قهرًا بل ترك الأمر بما يحقّق المصلحة للفرد وللجماعة، وأحاط ذلك بمنظومة قوانين هي حدود شرعيّة تحقّق التّوازن بين الفرد والجماعة. وكذلك على المستوى الفرديّ لا بدّ أن يتحقّق التّوازن بين الحقوق والواجبات فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنّ لبَدنِك عليك حقًّا، وإنّ لزَوجك عليك حقًّا، وإنّ لربّك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حق حقه”.[17] حتى لا يشقى المسلم بالتّكليف ولا يظلم غيره، فالدّين يسر . وكذلك يجب أن تكون نظرة الإنسان المسلم وموقفه من الدنيا مبنيا على رؤية متوازنة قال الله ” وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا “[18]
الاتزان في المعاملات
وأما التّعاملات المالية والاقتصادية فقد ضبطها القرآن بميزان في البيع والشّراء بما يحقّق العدل، وحذر أشدّ التحذير من التعدي والتجاوز معتبرًا ذلك قرينًا للفساد، مستحضرًا العقوبات التي أصابت من كان قبلنا من الأمم التي بغت في مسألة الميزان فقال: “وَيلٌ للمطَفّفينَ الّذِينَ إذَا اكْتَالُوا علَى النَّاس يَسْتَوفُون وإذَا كَالُوهُم أَو وَزَنُوهُم يُخْسِرُون” [19] .
وقال تعالى في سورة هود: “وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ[20]“. وقال أيضا في سورة الشّعراء “أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ”[21].
وفي المعامَلات والسّلوكات مع الآخر قد حدّد الإسلام ميزانًا لا يجب تجاوزه في مسألة الاستهلاك والأكل والشّرب فقال: “وَكُلُوا واَشْرَبُوا ولاَ تُسْرفُوا” [22] للمحافظة على صحّة الإنسان والمحافظة على الثروة، ولذلك حرّم التبذير وأمر بالتّوازن في الإنفاق وأن يقتصد ويعتدل في إنفاقه، فقال “وَلاَ تَجْعَل يَدَك مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ ولاَ تَبسُطْهَا كلَّ البَسْطِ فَتَقعُدَ مَلومًا مَحسُورًا “[23]، وقال “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”[24].
بل إن الإسلام وضع ميزانًا للمشاعر والأحاسيس واتخاذ القرارات والمواقف فقال النّبي صلى الله عليه وسلم :” أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغِض بَغيضَك هونًا ما عسى أن يكُون حبيبَك يومًا ما”[25]. وقال عزّ وجلّ في مسألة الفرح والحزن “لِكَيْلاَ تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ” [26]. وأمّا التّوازن عند المصائب فقد بشر الله الصّابرين والرّاضين بقدر الله، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: “إنّمَا الصّبر عند الصّدمة الأولى”[27]. ومن مجالات التّوازن الأخرى نذكر:
التوازن في التّعامل مع الأخبار والمعلومات: “إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُم نَادِمِين[28]“، فالتّثبت والتأكد من المعلومة الصّحيحة يُحقّق التّوازن في الحكم على الأشياء. ولم يهمل الإسلام مسألة التّوازن في التّعامل مع الكون والأشياء، وفي ظروف الحرب فكانت وصيّته للسّرايا: لا تقتلوا صبيًّا ولا امرأةً ولا شيخًا …لا تقطعُوا مثمرًا ولا تخربُوا عامرًا وبسند صحيح: أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان إذا بعث جيوشَه قال: “لا تَقْتُلُوا الوِلْدَانَ”، وفي رواية: “لا تَقتُلُوا شَيخًا كَبيرًا”، وفي رواية “لاَ تَقْتُلُوا ولِيدًا ولاَ اِمْرَأةً” .[29]
الاتزان في حاجيات الفرد
دعا الإسلام إلى المحافظة على توازن الشّخصيّة بين الجانب الجسدي والجانب الرّوحي، فردّ على الذين اتّخذوا قرارات فردية منافية للطّبيعة البشرية لما بلغه أن ثلاثة من الصّحابة تقالّوا أعمالهم إلى جانب عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذوا قرارًا فرديّا فقال الأوّل أما أنا فأصوم أبدًا ولا أفطر، وقال الثّاني أمّا أنا فأقوم ولا أنام، وقال الثّالث وأنا لا أتزوّج النّساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: “لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي”[30]. والتّرويح عن النّفس بما يرضي الله من الأمور المهمّة لتحقيق التوازن بين الجوانب العقليّة والنّفسية والبدنيّة. وقد روي عن عمر بن الخطاب قوله للذي وجده يتعبّد في المسجد تاركًا عمله يعوله أخُوه فنهره وضربه بالدّرة، وقال له: “أخوك أعبد منك، إنّ السّماء لا تمطر ذهبًا ولا فضّة”. فلا رهبانية في الإسلام، ولا بد من الموازنة بين العبادة والعمل، وبين الدّنيا والآخرة، بل إن العمل عبادة إذا ابتغي به وجه الله .
وأكّد الإسلام على التّوازن في التّعامل مع المخالفين والكفّار فقال تعالى: “ولاَ يَجْرِمَنَّكُم شَنَآن قَوْم عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا”. [31]، وقال: ” لاَ يَنْهَاكُمْ الله عَن الَّذِين لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم “. [32]
وشمل التّوازن كذلك البعد الجمالي المظهري قال تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ”[33]، وقال ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق”[34]. ويدخل في الزّينة كلّ مظهر جميلٍ ونظيفٍ، وكلّ أمر مفيد يستمتع به الإنسان ويستفيد منه بلا إفراط ولا تفريط كثمرات التّطوّر العلمي والتّقني حيث تشبع رغبات الإنسان بشكل متوازن.
وقد حرّم الإسلام العلاقات الجنسيّة خارج الزّواج الشّرعي لتحقيق توازن الفرد نفسيًّا واجتماعيّا وحفاظًا على سلامته من الأمراض والعدوى واختلاط الأنساب، والتّحريم ليس حرمانًا بل يهدف إلى تحقيق التّوازن. فالمسلم متوازن في كلّ شيء فلا يمشي في الأرض مرحًا ولا يرفع صوته أكثر من اللاّزم، وإنّما يقتصد في مشيته ويغض من صوته: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” [35]. وقد رأى سيدنا عمر رضي الله عنه رجلا يتماوت في مشيته فقال له “لا تُمت علينَا دِيننا”.
والتّخطيط للمستقبل يدخل كذلك في باب تحقيق التّوازن وفق خطة مدروسة وناجعةٍ لتجنّب الأزمات غير المتوقّعة وتجاوز الخلل في كلّ جوانب الحياة للحفاظ على الوجود فقال عزّ وجل “وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اَسْتَطَعْتُم مِن قُوّةٍ”[36] . ولنا في قصّة سيّدنا يوسف خير مثال على التّخطيط لتجاوز الأزمات، إذ ادّخر معيشة السّكان لسبع سنين كاملة من القحط والجفاف، وأنقذ مصر من مجاعة محققة. وورد في قوله تعالى :”قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ “[37]، قال محمد علي الصابوني في صفوة التفاسير في تفسير قوله تعالى “إلا قليلا مما تحصنون” أ ي إلاّ القليل الذي تدّخرونه وتخبّؤونه للزّراعة”[38].
وكذلك عند الخُصومة يحافظ المسلم على توازنه فلا يصخب ولا يفجُر ولا يبالغ في الخصومة، وليمسك نفسه عند الغضب ويعدل في الخصومة بين المتخاصمين قال تعالى : “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [39].
لا للتطرّف يمينًا أو شمالاً
ونجد الدّعوة إلى التّوازن في التّعامل مع أحكام الشّرع أوامره ونواهيه، فلا تشدّد ولا تنطع، قال صلى الله عليه وسلم : “إيّاكُم والغلّو في الدين”[40]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ”هَلك المُتنطّعون: قالها ثلاثاً ” [41]. فالتّطرف في الفكر والسّلوك مرفوضٌ شرعًا وعقلاً، عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي اللّيل أبداً وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبداً ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ”أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني” [42].
ونحن اليوم نعيش نتائج بعض المواقف المتطرّفة يمينًا أو يسارًا مما عطّل حركة الحياة وأدّى بنّا إلى التّنازع والفشل والضعف. ولما ابتعدنا عن منهج الوسطية والاعتدال ولم نحقّق الميزان ولم نحكم بالعدل ساءت حالُنا وتقهقرنا في كلّ المجالات، ولم نستطع الخروج من دائرة التخلّف الحضاري والتبعيّة والضّعف والمهانة .فإذا أخسرنا الميزان خسرنا الدّنيا والآخرة .
الهوامـــش:
[1] سورة البقرة: الآية 143.
[2] سورة الزلزلة: الآية 7-8.
[3] ” سورة الرحمن: الآية 5 -7.
[4] سورة القمر: الآية 49.
[5] سورة يس: الآية 39.
[6] سورة الحديد: الآية 25.
[7] سورة الإسراء : الآية 35.
[8] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار الجيل بيروت د .ت ص. 317.
[9] المصدر السّابق نفسه، ص. 318.
[10] سورة الفرقان: الآية 2 .
[11] سورة الحجر: الآية 19- 24.
[12] سورة التين : الآية 4.
[13] سنن أبي داود بإسناد صحيح.
[14] سورة الصف: الآية 3.
[15] سورة الرّعد: الآية 28.
[16] سورة الحجر: الآية 49.
[17] رواه البخــــاري
[18] سورة القصص: الآية 28.
[19] سورة المطففين: الآية 1-3.
[20] سورة هود: الآيــة 85.
[21] سورة الشّعراء: الآيـة .
[22] سورة الأعراف: الآيـة 31.
[23] سورة الإسراء: الآية 29.
[24] سورة الحديد: الآية 23.
[25] رواه الترمذي.
[26] سورة الحديد: الآية 23.
[27] رواه البخاري.
[28] سورة الحجرات: الآية 6 .
[29] أحمد بن محمد بن سلامة الطّحاوي، شرح معاني الآثار ، ط 1 عالم الكتب 1994، ج 3، ص. 221.
[30] رواه البخاري.
[31]سورة المائدة: الآية 8.
[32] سورة الممتحنة: الآية 8.
[33] سورة الأعراف: الآية 31.
[34] سورة الأعراف: الآية 32.
[35] سورة لقمان: الآية 19.
[36] سورة الأنفال: الآية 60 .
[37] سورة يوسف: الآية 47.
[38] محمد علي الصّابوني، صفوة التّفاسير، ج 2 ، دار ومكتبة الهلال، بيروت 2002 م. ص 51 .
[39] سورة الحجرات: الآية 9.
[40] أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه.
[41] شرح النّووي على مسلم، كتاب العلم، ج 16، ص 128 .
[42] متّفق عليه.
المصادر والمراجع :
- القرآن الكريم
- كتب الأحاديث
- أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي ، شرح معاني الآثار، ج 3 ط 1، عالم الكتب 1994.
- محمد علي الصّابوني، صفوة التّفاسير، ج 2 ، دار ومكتبة الهلال، بيروت 2002 م.
- عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار الجيل، بيروت د .ت.
مقال ثري لاسيما من حيث الحججُ الدينية فأقنع إلى حدّ بعيد. ولكن كان من الممكن سي لمين ان تعرّج على نص الجاحظ .. مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشرّ. وهو نص مهم ومميز يثبت فكرة ضرورة الوسطية في حياة الانسان من جهة علمية كما انه بالإمكان أيضا اعتماد التحليل النفسي الذي اثبت ان السلوك السوي للإنسان لايكون الا بالوسطية … مع الشكر
مقال ثري ومتوازن، والأستاذ الأمين الكحلاوي اعتمد أساسا على آيات من القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية وأعمل فكره في التنسيق بين تلك النصوص بحيث ظهر أنه اجتهاد شخصي يبين عن جهد طيب. يمكن للكاتب أن يتوسع في المقال أكثر فيتحول إلى بحث معتمدا على العلوم الحديثة مثل علم النفس وعلم الاجتماع في تأييد ما ذهب إليه. وله كذلك أن يعتمد على بعض الأحداث والوقائع من حياة الناس وهي متنوعة وما أكثرها.