بقلم: منيار نواصـــري
اِختفى البدرُ من السّماء، ولفّت الأرض بحلكةِ ظلمة ظلماء، يُسمع زفير الرّيح المخيف مع انهمار الدّيمة الوطفاء…
هذه اللّيلة، لا نوم و لا إغفاء…السّاعة تشير إلى العاشرة ليلاً و الجوّ يوحي بالرّهبة.
يمكُث “ناجح” في مكتبه يطلع على ملفاته وينجز تقاريره، ومع كلّ شهيق و زفير يزداد غضب الطّبيعة و نحيبُها.
يلتفتُ “ناجح” فإذا بابتسامةٍ خفيفةٍ تلوح على أديمه، تنمّ عن…
إنّها البدلة السّوداء!… بدلة المحاماة…
شرع “ناجح”، إثرها في إتمام مهامّه وتنظيم أوراقه المبَعثرة… لكن ما زاد الجوّ إحباطًا تلك الأصوات التي تعالت، إنّها تبحث عن صدى صوت حبيب برح و لم يعد…
يتفاقمُ توتّر المحامي ويزداد خفقان روعه…
اعتزم حينها على الرّحيل والعودة إلى مثواه…لكن سرعان ما استوقفته تلك الصّورة المعلّقة، تسمّر في مكانه، عاينها مليًّا، وأخذ يخاطب نفسه متأوّهًا:
– آه لو توقّف الزّمن لحظتها!
فماذا يفعل، وهو ضحيّة قدر مشؤوم و إهمالٍ مقصودٍ؟
على حين غرة، انبثق صوتٌ خافتٌ ينادي متألمّا:
– ناجح، ناجح، الحق…الحق يا…
يختفي الصّوت تدريجيًّا إلى أن عمّ الوجوم…
يضرب ناجح الحائط ويجثم على الأرض ضعيفًا مستكينًا…
يعود الصّوتُ كرّة ثانية، يهمس متهافتًا:
– اعتنِ بإخوتك، وكن محاميًا عنوانك الحقّ…
بقي ناجح مشدوهًا، لم يصدّق ما سمعه.
لقد كان آخر قول لها قبل إدبارها…
انطلقت السّيّارة بهنّ، انطلقن نحو فناء مجهول، وذلك من أجل لقمة عيش أبناء، و وشاح يكسي الجسد من صرّ الشّتاء…
نعم، فهنّ نساء ريفيّات اِعتدن على النّصب و الاستغلال…
تزداد سرعة السّيارة، ها هي تميل طورًا ثم تستوي طورًا آخر.
و في ذهن كلّ واحدةٍ منهنّ لوحة قاتمة تشرف على مستقبل يكتنفه السواد.
ها هو صوت إحداهنّ يرتفع تدريجيًّا:
– لقد استدان زوجي من جارنا محمود ولم نستطع التّسديد، و الأجل اِقترب، وكلّ هذا لتوفير مستلزمات الدّراسة الباهظة.
تردّ عليها الأخرى متنهّدة:
– و الله يا فاطمة، فالكلّ منّا عليه ديون و ما باليد حيلة…
حينها،انهمرت على صفحات عمرهنّ المحروم دمعةٌ خطّها الألم و رسم فيها آيات الصّمود،
فلا الجسد راضٍ و لا البال ساكن.
تُسابق السّيارة الرياح، تنحبس الأنفاسُ شيئًا فشيئًا، تتزايد دقّات القلب بين الخفقة والخفقة، يتصبّب العرق، ترتجف الأنامل، يشعرن بضغط يكبّل أرواحهن…
فجأةً، تدوّي الصّرخة المتوقّعة، ارتجّت لها الغبراء، لقد كان العدوّ ماهرًا هذه المرّة، طوّقهنّ من كلّ جانبٍ فلا سبيل للفرار…
منظر فاضت له العيون لهفةً و جزعًا…
يُتّم الأبناء، شُردوا، أُهملت الدّيار و حُطّمت الأحلام…
ومن يهتمّ لهذا الأمر و هن الأمّيات المنسيّات؟ !!!
يا لها من ذكرى مُؤلمة مريرة!…
استقبل “ناجح” واقعه بدموع انحدرت انحدار حبّات عقد وَهَى سلكه فانتثر…فهو المناضل المتجلّد رغم قساوة الظّروف…أمّا أولئك فتراهم في مجالسهم الخمريّة، ينثرون المال عبثًا ويشربون النّخب مقهقهين…
ها هو يتمتم محتدمًا:
– لقد حُسم الأمر، فلا مجال للتّراخي…
حينئذ، أسلم “ناجح” رأسه إلى ركبتيه وأخذ يضطرب اضطرابًا شديدًا حتّى أخذ الكرى أجفانه…
تُعلن الشّمس بداية يوم جديد، يُطرق الباب طرقًا عنيفًا يكاد يُخلع، ينهض “ناجح” جزعًا…يعيد التّحديق في الصّورة ويختم بقوله:
– لقد انتهى زمن الظّلم يا أمّاه…
ثم اختفى عن الأنظار مخلّفًا صدى ضجّة يرضخ لها القلم ويستكين لها القرطاس.