بقلم: أ. الصحبي الماجري
يُحكى أنّه كان يوجد في جزيرة تقع في أدنى الأرض غابة وافرة الأشجار كثيرة الأزهار وبها ينابيع ماء سلسبيل، صاف لذيذ الطّعم وصاف اللّون لا يكدّره تراب ولا شوائب ولا مواد ملوثة، وتعيش فيها حيوانات متعددة الأشكال والأنواع والألوان وينتشر فيها كثير من الطير والأنعام.
في الغابة كان يوجد قطيع من الذّئاب القويّة يرأسها ذئب حكيم أبيض اللون، حادّ النظرة لا يُردّ له أمر، وعند سماع صوته يفعل الذئاب ما يؤمرون، وبين القطيع توجد ذئبة سوداء اللّون زرقاء العين تثير نظر الناظر استغرابًا وتعجّبا.
كان للذئبة ابن صغير يلعب حولها كلّما غدت أو راحت فرحًا بما يفعل سعيدًا بوجود أمّه بجانبه ترشده وتحميه، ولم يكن للذئب الصغير أخوة ولا أصدقاء، فهو الصّغير الوحيد بين الذّئاب الّتي ترعاه وتحميه وتداعبه في اللّعب حينًا وتعلّمه فنون الصّيد والقتال أحيانا أخرى.
وتمرّ الأيام والسّنون ويكبر الذّئب الصّغير ويكبر معه حبّ الصّيد والرّغبة في القتال فأصبحت الذّئاب الكبيرة تحمله معها فأثبت قوّة صبر وعزيمة صيد وإرادة قتال لا تلين. وفي بضع سنين أصبح الطفل شابّا يافعًا وقائدًا فذّا وبطلاً لا يُشقّ له غبار بين معشر الذّئاب حتّى قرّر الذئب الحكيم تعيينه نائبًا له وفوّض له أغلب أمر القطيع.
هذا الأمر جلب له الحسد والبغض والكره والنقمة من مجموعة صغيرة من الذّئاب تتميّز بأنّها حمراء اللّون كالنّار وعيونها كالشّرار وهي صعبة المراس ذات بطش شديد يخشاها معشر الذّئاب جميعًا، ولكنّ الذّئب الصغير لا يخشاها، وقرّر لمصلحة الذئاب جميعًا الحدّ من قوة هذه الجماعة وبطشها وتسلّطها على الآخرين فاستحسن الذّئاب ذلك، ولكنّ الجماعة قرّرت الانتقام والتخلّص من الذّئب الصّغير إلي الأبد.
أجمع الذّئاب الحمر على أن الحلّ الأسلم للخلاص منه، وهو المحبوب بين عموم الذئاب أن يرسل بعيدا لجزيرة الشّر حيث لم يعد يوما أي ذئب أو غيره منها ولكن كيف السّبيل إلى ذلك؟
وبعد تفكير طويل وتمحيص لكلّ فكرة وخطة أجمعوا أمرهم أن الأمر الوحيد الذي قد يذهب الذّئب الصغير من أجله هناك هو أمّه التي لا يحب في الدنيا إلاّ إياها حبّا كبيرًا عميقًا لا يضاهيه أي حبّ آخر وهنا قيل لهم: كيف السّبيل لحمله على نجدة الأم ّوهي تامّة العافية قوية البنية شديدة البأس ككلّ إناث الذئاب. فقال أحدهم وهو يرشدهم: لا حلّ إلا عند ساحرة الغابة. فأجمعوا أمرهم وخرجوا متّجهين إلى قلب الغابة للقاء السّاحرة الماكرة المسماة ظلمة. وكان لهم ما أرادوا فأعطتهم طعاما إذا مزج بماء العيون أو ماء النّهر وأكلته الذئبة فستدخل في غيبوبة لا تفيق منها إلا متى جلب لها الابن عشبة الحياة التي لا توجد إلاّ في جبل الظلام، في جزيرة الشرّ ويحرس الجبل عملاق رأسه رأس نمر وجسمه جسم بومة سوداء قاتمة السّواد حتى أنّه في الليل لا يرى إلا رأس النمر.
وتمّ لهم الأمر كذلك.
اجتمعت الذئاب الحمراء الماكرة والمخادعة وبعد أن جلبت معها سحر السّاحرة من قلب الغابة السّوداء المظلمة كظلمة قلب ظلمة، وقررت أن ترسل ذئبة حمراء تمتلك قدرة كبيرة على أن تقنع الآخرين بالطيبة والمحبة والخير إلى الذئبة الأم لينفذوا فيها مكرهم الذي مكروه.
ارتدت الذّئبة لباس التقوى والورع والخير وحملت السحر الأسود القاتل في جرابها وقصدت بيت الذّئبة الطيبة وطرقت الباب طالبة الدّخول لقضاء حاجة مستعجلة لا يمكن تأجيلها ألمت بها في طريقها للعودة للبيت وألحت في الطلب حتى استجابت لها الأم الذئبة، بعد أن رأت منها كل مظاهر الخير والطيبة، بل قررت أيضا أن تشرب معها قهوة منزليّة فاخرة ذات طعم رائق رائع لذة للشاربين.
وبعد قضاء الحاجة جلست الذئبة الماكرة مع الذئبة الأم وبدأت في تبادل أطراف الحديث والقصص حول الغابة وأهلها، وخاصة حول الخصال الحميدة للذّئب الابن حتى شعرت الأم الذئبة أن الذئبة الشابة تحمل حبّا كبيرًا جارفًا لابنها فسرّت بذلك أيّما سرور، وبينما هما يتحدثان ويضحكان طلبت الذئبة الشّابة من الأم قطع حلوى، فقد سمعت أن حلوى الأم ذات مذاق رفيع، فخرجت الأم للغرفة المجاورة لتجلب الحلوى، عندها سحبت الذئبة الماكرة السحر الأسود من جرابها ودسته في قهوة الأم وعادت لمكانها كأنّ شيئا لم يكن.
بعد بعض الوقت عادت الأم تحمل طبقًا مليئًا بالحلوى الطيبة للذئبة الشّابة، وجلست لتواصل الحديث معها، وهما تشربان القهوة. ومر الوقت سريعا، واستأذنت الذئبة الشّابة للمغادرة لأنها تأخرت وتخشى أن يصاب والداها بالحيرة والخوف عليها.
وأكملت الأم عملها في البيت بعد مغادرة الضيفة وهي تمنى النفس بأن تفرح بزواج ابنها من هذه الشابة الجميلة والرقيقة وطيبة القلب، وفجأة سقطت مغشيّا عليها وسط المطبخ.
وفي المساء عاد الذئب إلى المنزل، وطرق الباب لبرهة ليست بالوجيزة، وأصيب بحيرة لتأخر أمه عن فتحه، فسحب المفتاح من جيبه وفتحه ودخل فلم يجد أمّه حيث تعود أن يجدها كلّ يوم أمام الموقد تنسج النّسيج قميصًا جديدًا له، فازدادت حيرته، وبدأ في مناداتها ولا من مجيب، فانطلق في البحث عنها حتى وجدها ملقاةً في قلب المطبخ فاقدة للوعي فحاول إيقاظها، ولكنها لم تستجب لمحاولاته المتكرّرة، فقرر حملها بين ذراعيه نحو المركبة خارج البيت والاتجاه بها بسرعة نحو البيمارستان عله يجد لها عند الطبيب دواء شافيًا. ووصل الذئب الابن بأمه إلى البيمارستان فاستقبل بحفاوة بالغة، ودخلت أمه على جناح السرعة للطبيب المناوب الذي فحصها فحصًا دقيقًا، فلم يجد في كل جسمها علة واحدة، فاستغرب ولم يجد تفسيرًا لما أصيبت به من غيبوبة تبدو كالنّوم. فأعلم ابنها بالأمر، وهما في حيرة من أمرها. وبينما هما يفكران محتارين أقبلت حكيمة عجوز قد شارفت على المائة عام أو يزيد، ونظرت لهما مستغربة، فأخبرها بالأمر، ففتحت الستار عن الأم وتأملتها مليّا وبدقة بالغة ثم قالت: هذه ليست علّة جسد بل مكر ساحر.
اندهش الطبيب والابن، ولكن العجوز الحكيمة دعتهما لعدم الحيرة، فليست كل علة نابعة من الجسد، بل توجد علل تصيب النّفس، وقد تؤثر في الجسم والتأثير بالنّسبة للأم هو نتيجة سحر أسود قادم من غابة ظلمة السّاحرة، ولكن الله وضع له حلاً ليبطل مكر السّحرة ويمحق شرهم. سأل الابن: كيف السبيل إلى نجدتها أيّتها الحكيمة؟. قالت: الدواء يوجد في زهرة الشرّ الموجودة في جزيرة الشّر والظلام التي تبعد بضع أميال عن جزيرتنا، ولكن خليجها أمواجه هائجة مائجة طوال العام، ورياحها قوية وحتى إن تجاوزت الشاطئ يحرس النّبة كائن له رأس نمر وجسم بوم، ويحيط بها من الأرض ويراقبها من السماء ويشم رائحة الإنسان من أميال بعيدة وتقويه رائحة خوف الإنسان فيزداد بطشا.
فكر الابن طويلاً، ونظر إلى أمه وقال: مهما كانت المخاطر سأذهب لجلب الترياق لها. فأثنت الحكيمة عليه ووعدته أن تعرف من مكر بوالدته لينال جزاءه العادل. وأعطته بعض الأدوات التي قد يحتاج لها في رحلته الخطيرة. ومن الغد غادر الشّاب البيت قاصدًا الميناء. وفي الصباح الباكر، ومع أول خيوط الفجر انطلق الذئب الصّغير في رحلته البعيدة لإنقاذ روح أمه الغارقة في ضباب النّسيان التائهة في ظلمات الحقد والبغض والظلام والشرّ. وصل الميناء مع أول خيوط الشمس فوجد سفينة في انتظاره أعدها له الذئب الأحمر أحد مستشاري الحاكم، حين علم بأمر ما أصاب أمه من سحر أسود والذئب المستشار كان يعلم حقيقة الفاعلين، ولكنه قرر أن يعين الذئب الصغير أولا وأن يكتم أمر الخونة حتى عودته ليتم محاكمتهم بحضوره وأمام عموم الذئاب. وقد زود السفينة بكلّ سلاح قد يحتاجه الذئب الصغير في رحلته، وأكثر من الماء والأكل وأرسل معه فيها نخبة من المحاربين الأشداء المتمرسين في فنون القتال والحرب مع البشر والوحوش والجن والشياطين علهم يكونون عونًا له حين الوصول لجزيرة الشر والبحث عن الدواء لنجاة روح أمه العليلة.
انطلق الذئب بالسفينة السريعة واتجهوا نحو جزيرة الشّر مبتعدين رويدًا رويدًا عن جزيرتهم الأم وهم لا يعلمون ما ينتظرهم خلف الضباب الأسود الممتد في البعيد ظلالا تخفي جزيرة الشر عن العيون. مشهد يرعب القلوب الضعيفة، ولكن قلب الذئب الصغير ومحاربيه قلب قوي صلب لا يؤثر فيه بعض الضباب أو الأصوات القادمة منه والتي تثير الرعب في القلوب الضعيفة الخائفة. وبعد سويعات دخلت السفينة في ظلام الضباب الأسود ولم يعد الجالس في آخر السفينة يرى أولها ولا الجالس في أولها يرى آخرها ولا الجالس في قلب السفينة يرى الميمنة والميسرة منها، وشعر الرجال ببعض الرهبة من شدة سواد الظّلام حتّى لا تكاد ترى اليد الممدودة منك نحو من بالجنب من الإخوان والرفاق. وكلما دخلوا فيه ازداد سوادًا وظلمةً، وازدادت القلوب معه رهبةً حتى تكاد تسمع صوتها في سكون السفينة.
ومرت أوقات لا يعرف لها عد حتى سمع من في السفينة فجأة صوتا قوياً رهيبًا ينبعث من أسفلها صاعدًا نحو أعلاها وهو يقترب رويدًا رويدًا، وكلما اقترب ازداد قوة ترهب القلوب وتكاد تقتلعها من مكانها من الشدة والعنف. وتوقفت أنفاس كل من السفينة من شدة الهول القادم، ولم يكن المحاربون يتصورون أنه يمكن لأي صوت مهما كان أن تنخلع له قلوبهم، ولكن الصوت القادم ليس كأيّ صوتٍ عرفه الإنسان منذ حطت أقدامه على هذه الأرض وعبرت سفنه فوق البحار والمحيطات. صوت لا تصمد أمام هوله القلوب مهما كانت قوية. واقترب الصوت الهادر رويدًا من السفينة، وكادت القلوب أن تغادر الصدور. وفجأة عم الصمت الكامل فلا يسمع إلا صوت دقات قلوب البحارة والمحاربين، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى وولى فشعروا ببعض الطمأنينة تسري في عروقهم، ونظروا إلى بعضهم البعض مبتسمين فرحين بزوال الغمة والشدة، وعادوا إلى أنشطتهم السالفة على سطح السفينة. وفجأة انطلق جسم كبير وعظيم من الماء وعبر فوق السّفينة حتى حال بينها وبين رؤية الضباب الأسود الساكن فوقها، ونظر الجميع إلى الأعلى وإذا به جسم حوت عظيم جبار عابر في الفضاء وكأنه ريشة خفيفة وله ذيل كالسيف القاطع. اندهش الجميع وتعجبوا أشد العجب من الأمر وتسمروا في أماكنهم.
وإذا بالحوت العظيم يصدر صوتًا مرعبًا تقتلع من هوله القلوب من أماكنها، ونظر نحو السفينة بعيونه الكبيرة السّوداء نظرة بثت الرعب والفزع في عيون الكل، وتجمد بعضهم من هولها كأنّهم الصخر. ثم واصل طريقه ليصطدم في الجهة الثانية من السفينة بالماء، ولكن اصطدامه به أرسل نحو السفينة موجة عالية عاتيةً كأنها الجبال فمالت وكادت تغرق، وعند استقامتها عالجها بذيله البتار كالسيف فاقتلع السارية وجزءً من الجانب الأيمن لغرفة القيادة، ومزق الأشرعة فأصبحت السفينة في مهب الريح يحملها حيث شاء. وسار الحوت في سبيله ولم يلتفت خلفه تاركًا الجماعة في حالة يرثى لها من التّعب والخوف وسفينتهم تهزها الأمواج العاتية نحو الجبال الصخرية المدببة لجزيرة الشر. وأيقن الجميع أنهم هالكون لا محالة وأن لا نجاة لهم اليوم.
واندفعت السفينة نحو الشاطئ الصخري مسرعةً، ولم يبق للبحارة والمحاربين إلا دعوة الله عله ينجيهم من الكرب العظيم. وامتدت أيديهم نحو السماء بالدعاء للخالق الجبار الرحيم طالبة الرّحمة والغفران والنجاة مما هم فيه من بأس، وارتفعت أصواتهم وسط الصمت المطبق حولهم حتى لم يعد يسمع إلا صوت بكائهم وندائهم المرتفع نحو عنان السماء.
فجأة توقّفت السفينة دفعة واحدة، وارتفعت كأن يدا امتدت من تحتها وحملتها عاليًا، فاندهش البحارة والمحاربون واستغربوا ولكنهم حمدوا الله أن سفينتهم لن تصطدم بالصخور فتفتك بها وبأجسادهم فتكًا لا يبقى لهم من بعده من أثر بعد عين. وارتفعت السفينة حتى تجاوزت الضباب الأسود المحيط بالجزيرة، وشاهد البحارة والمحاربون لأوّل مرة الشمس مذ سافروا ففرحوا أشد فرح. ولكن الشمس عكست ظلاً كبيرًا لطائر ضخم ذي رأس غريب، فرفعوا رؤوسهم إلى الأعلى فإذا بهم يشاهدون الطائر الأسطورة الذي سمعوا عن وجوده في جزيرة الشر، وأدركوا عندها أنه من يحمل سفينتهم بين أرجله طائرًا بها نحو عشه في أعلى الجبل الأحمر النّاري في قلب جزيرة الشّر، وتعجبوا من رأسه الذي يشبه رأس نمر وجسمه الذي يشبه جسم بوم عملاق. زالت الفرحة من الوجوه، واعتراها الهمّ من جديد، وأيقن أصحابها أنّ الموت قريب منهم وأن ما ظنوه طوق نجاة إنّما هو حبل موت يلتف على أرواحهم، وأنّه لا نجاة لهم اليوم من هذا الطائر إلا بمعجزة من السّماء.
وصل الطائر لعشه فأنزل السفينة فيه وانطلق لحال سبيله دون أن يلتفت وراءه إليها وإليهم وكأنّه مطمئن شديد الطمأنينة أن لا سبيل لهم للفرار من قمة الجبل المحاطة بحمم النار من كل الزوايا والأركان، فلا سبيل لهم للعيش إلا بالبقاء في عشه، فهو المكان الوحيد الآمن لهم والضامن لحياتهم، ولكن أيضا لوجبته. نظر أهل السفينة حولهم فوجدوا أن عش الطائر يوجد على صخرة ملساء وسط بحر من الحمم المنبعثة من قلب الجبل المتناثرة حوله، وأن هذه الصخرة باردة كأن ليس حولها نار ولا حمم. فنزلوا عن السفينة وقرروا أن يجولوا في المكان علهم يجدون ما يمكنهم من النجاة. وقد بدت لهم الصخرة كأنها جزيرة عظيمة في قمة جبل عظيم. وعزموا أمرهم على السير فيها وفي أرجائها وألا يعودوا إليها إلا وقد وجدوا طوق نجاة. ومر عليهم حين من الدهر وهم يجوبون الصخرة العظيمة أو عش الطائر العجيب – إن أردنا القول -حتى وصلوا إلى حفرة دائرية كبيرة وعميقة لدرجة لا يمكن رؤية آخرها بحيث تبدو كهوة سحيقة مظلمة ومرعبة لا نور فيها ولا ضياء. بدأوا في الدوران حولها محاولين اكتشافها والبحث عما قد يساعدهم على الخروج من الجزيرة والنجاة بحيواتهم المهددة بالقطف من الطائر العجيب، وقد انقسموا إلى مجموعتين واحدة ذهبت يمينا والأخرى يسارا، واتفقوا أن كل مجموعة تجد وسيلة للنجاة تنتظر الأخرى حتى تقدم إليها. وكان الأمر كذلك، واتخذت كل مجموعة سبيلا.
ومرت بعض ساعات والتقت المجوعتان في مكان واحد، وأعلمت كل واحدة الأخرى أنها لم تجد من سبيل يمكن أن يكون أداة نجاة من الهول الكبير الذي ينتظر الجميع لو عاد الطائر، وقد لاحظوا أن الشمس بدأت تقترب رويدا رويدا من الغروب مما يعنى أن عودة الطائر قد اقتربت ولا بد من التفكير في أمر ما للحفاظ على الحيوات المهددة. لف الصمت المكان، وتسمر كل واحد منهم في مكانه، وفجأة أخبرهم الذئب الطفل أنه قرر أن ينزل في قلب الحفرة عله يجد في أخرها ما يكون أداة نجاته، وإن مات كان موته في الحفرة خير من الموت بين فكي الطائر العجيب، وأن من يريد القدوم معه فليأتي ومن يريد البقاء فله ذلك. وكان في السفينة حبال طويلة جدا أعدها البحارة لتسلق الجبال العالية البعيدة، وهي بعدد ركابها جميعا. فتحمس الجميع للفكرة وخاصة أنه ليس لهم ما يخسرونه من سفرهم عبر الحفرة، فهم ميتون لا محالة إن بقوا على سطح الصخرة الأملس الذي لا نجاة فيه من مخالب الطائر ومن أنيابه الحادة. فعزموا أمرهم وأعدوا حبالهم ورموها في الحفرة بعد أن ثبتوها في مسامير قوية على حافتها بالمطارق التي معهم، وبدأوا في النزول وهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم وراء الظلمة البادية تحت أقدامهم.
كان النزول سهلا وسريعًا إلى عمق الحفرة، وأصبح السّواد فوق الرؤوس، وبدأ النّور يتجلّى رويدًا رويدًا في الأسفل حتى أصبح يبهر العيون من الشّدة، وأيقن الجميع بالنّجاة، فالنور دائما خير من الظّلام. ووصلت مجموعة السفينة إلى الأسفل فوجدت في آخر الفتحة كهفًا تدخله الشمس من كل أركانه وزواياه وله أبواب عديدة مختلفة الألوان والأشكال وعليها رسوم حيوانات غريبة وعجيبة. واندفع الجماعة نحو أحد الأبواب وفتحوه، ومشوا في مسلكه حتى وجدوا في آخر الطّريق حديقةً جميلةً بها شتى أنواع الأزهار والورود وكل أنواع الغلال والفواكه، ما يعلمون وما لا يعلمون، فانطلقوا في الحديقة يتناولون ما لذ وطاب من خيراتها حتى جنّ اللّيل، فناموا فيها نومًا عميقًا حتّى مطلع الفجر.
ومع بزوغ خيوط الشّمس الأولى أخذوا طريقهم نحو أسفل الحديقة عبر أدراج رخامية حتى وصلوا إلى حقل قمح ذهبيّ اللون، بديع الجمال وفي وسطه توجد زهرة الشّر التي تحمل الدواء للأم النائمة. فسحبوا من الزهرة بعض رحيقها ووضعوه في قارورة بلورية مطليّة بماء الذّهب، وواصلوا طريقهم في اتجاه قلب الجزيرة علهم يجدون سبيلاً للعودة سالمين إلى أرضهم. بعد مسار طويل وجدوا مشهدًا غريبًا وعجيبًا في قلب الجزيرة. تُوجد في الأسفل تحت أقدامهم بحيرة كبيرة بها ميناء كبير على أطرافه سفينة كبيرة رائعة الجمال والبهاء. فلم يترددوا في القفز في البحيرة والسّباحة نحو حافة الميناء البديع والتّوجه نحو السفينة وركوبها ورفع المرساة. فاتخذت السفينة مسارها في الماء بيسر وسلاسة والجماعة مستغربون ومتعجبون مما يشاهدونه فوق رؤوسهم، حيث تمر السفينة أسفل اليابسة التي تصبح مثل سماء تغطيها. إن البحيرة تمتد في كهف عظيم أسفل الجزيرة. ومرت ساعات طويلة، وبدأت أطراف البحيرة تضيق قليلا قليلاً حتى أصبحت نهرا طويل ممتدًّا في الكهف، فتوجّه الرّبان نحو النهر بالسفينة، وعبروا جميعا النّهر حتى وصلوا أخيرا إلى آخر الكهف، فإذا به يفتح على البحر الواسع من الجهة الخلفية لجزيرة الشّر التي كانت صافية السّماء وهادئة الأمواج.
ركبُوا الأمواج عائدين إلى جزيرتهم متّخذين سبيلاً في البحر بعيدًا عن بحر المخاطر. ولم تمر إلا ساعات قليلات حتى وصلوا فوجدوا القوم في انتظارهم على أحر من الجمر. اتخذ الذئب الطفل سبيله مسرعًا نحو أمه فوجدها نائمة نوما عميقًا والذئبة العجوز معها. سلم العجوز الحكيمة قارورة الرّحيق ففتحتها، وأخذت منها بعضه وقربته من أنف الأم النائمة فإذا بها تستفيق مندهشةً من وجودها بالمستشفى، فهي لا تتذكر أنها مرضت. نظر إليها الذئب الطفل فرحًا واحتضنها بكل شوق. ثمّ روى لها الواقعة بتفاصيلها، فتعجّبت، وحمدت الله على النجاة. أمّا الذّئاب الحمراء الخائنة فأُلقي عليها القبض، وحُوكمت بالسجن والنّفي خارج الجزيرة.