بقلم: مصطفى الستيتي
بعد وصولي بوقت قصير إلى استانبول في عام 1998م لمواصلة الدّراسات العليا هناك تعرّفت على أستاذ التّاريخ العثماني الدّكتور أتيلاّ تشتين Atilla Çetin، وقد فوجئت أنّه مهتمّ اهتمامًا خاصّا بتاريخ المغرب العربي في العهد العثماني، وبشكل أخصّ بتاريخ تونس، بل إنّه ألّف كتابًا قيّمًا عن السّياسي والمصلح التّونسي خير الدّين باشا. وقد كان لي شرف ترجمته فيما بعد إلى اللّغة العربيّة ونَشرتْه وزارة الثّقافة التّونسيّة عام 2003م. وقد مكّنته معرفته للّغة الفرنسيّة من الاطلاع على تاريخ تونس والتّعمّق فيه سواء من خلال المصادر التّونسية أو الفرنسيّة.
عندما زُرت الأستاذ تشتين في بيته المتواضع في منطقة يُوسف باشا في استانبول كان يتحدّث بإعجاب كبيرٍ عن تونس، وبحبٍّ بالغ لتونس ولعلمائها ومصلحيها بعد أن اطّلع على تاريخ نخبةٍ كبيرة منهم. ثمّ إنّه أخرج لي من بين أوراقه وكتبه مقالةً بعنوان “تونسيّون مدفونون في اسطنبول” نشرها في مجلة “التّاريخ والمجتمع” (Tarih ve Toplum) التّركية، وأرفق مع المقالة صورًا لهؤلاء التّونسيين الذين تحدّث عنهم وعن سيرتهم، وصورًا للمقابر التي دُفنوا فيها في استانبول. ويتكوّن هؤلاء التّونسيّون من علماء وسياسيّين وعسكريين عاشوا في اسطنبول لفترة من الوقت، أو ماتوا ودُفنوا فيها من أمثال خير الدّين باشا التّونسي، ومحمود قابادو، وإسماعيل الصّفايحي، وصالح الشّريف، وعلي باش حامبة، ومحمد السّنوسي، ومحمد بيرم الخَامس وغيرهم. وذكر لي رحمه الله أنّه كان ينوي بشغفٍ شديدٍ إنجاز بحثٍ مفصّل عن التّونسيين في استانبول ويُخرجه في كتاب مستقلّ. بيد أنّ يد المنون امتدّ إليه يوم 3 جوان سنة 2015م قبل أن يُنجز ما نوى.
كنّا نلتقي من حين إلى آخر في بيته أو في مبنى الأرشيف العثمانيّ في منطقة السّلطان أحمد، أو في إحدى المقاهي، وكان كثيرًا ما يسألني عن آخر ما يصدر من كتب في التّاريخ في البلاد التّونسية، وعن أحوال تونس السّياسية والاقتصاديّة، وكأنّما هو تونسيّ متغرّب خارج وطنه ويتطلّع بنهمٍ لمعرفة أخبار بلاده. وكم كنت وددت من القنصلية التّونسيّة في استانبول آنذاك أن تقيم ولو حفلاً بسيطًا لتكريمه، اعترافًا له بالجميل وشكرًا له على ما يبذله من جهد في سبيل خدمة تاريخ تونس، وخصوصًا بعد صدور التّرجمة العربيّة لكتابه عن خير الدّين التّونسي. سألني مرّات عديدة عن الموضوع، وكنت أرى في عينيه الحَسرة وأقرأ فيهما مشاعر العتاب، بيد أنّ ذلك لم يحدث للأسف. كما أنّ وزارة الثّقافة التّونسية التي نشرت كتابه لم تكلّف نفسها اِستدعاءه إلى تونس، واستضافته وتوجيه الشّكر له وتكريمه على ما كتبه عن تونس وعن أعلام تونس في استانبول.
هذه مسألة تحتاج فعلاً إلى تفكير ونظرٍ، فنحن في تونس ما زلنا لا نعرفُ كيف نحافظ على الأصدقاء المحبّين من ذوي العلم والمعرفة مثل هذا المثقّف الذي يُعتبر سفيرَا جيّدًا لتونس في بلاده تركيا. فقد عرّف بأعلامها ونشر سِيَرهم وحاضر عنهم ونحن غير حاضرين. كان ينبغي الاعتراف بفَضله وتكريمه كما أَكرم هو أعلامنا ومثقّفينا في بلاده تركيا.
علقت في ذهني فكرة تأليف كتاب عن التّونسيين في استانبول، والتي كانت تُخامر الأستاذ تشتين رحمه الله، وتطوّرت مع الوقت، وقرّرت أن أجمع أخبار التّونسيين الذين عاشوا في استانبول من وثائق أرشيفيّة، ومن أخبار في الصّحف ومن صور لهم، فتكوّن لديّ رصيد جيّد من المعلومات عن هؤلاء التّونسيين، وآمل أن يُسفر هذا الجهد عن تأليف كتابٍ يجمع شتات أخبار هؤلاء التّونسيّين في استانبول وجهودهم المختلفة سواء في المجال العلمي أو السّياسي أو الدّيني.
والأستاذ أتيلا تشتين رحمه الله مولود في عام 1942م في منطقة بايكوز في استانبول، درس في قسم التّاريخ بجامعة استانبول. وقد عمل لوقت طويل في مجال تلخيص الوثائق في الأرشيف العثماني التّابع لرئاسة الوزراء التركيّة، كما عُيّن نائبًا لمدير الأرشيف. ومكث مدّة من الوقت في فرنسا باحثا في الأرشيف الفرنسي. وعمل كذلك في صحيفتي “ترجمان” و”دنيا”. وفي عام 1987م نال درجة الدّكتوراه في كلية الآداب بجامعة استانبول، وفي عام 1996م نال درجة الأستاذية. وقد ألف تشتين نحو 20 كتابا و300 مقالة في مجال التّاريخ العثماني وتاريخ التّعليم والصّحافة، وتاريخ الولايات العربية في العهد العثمانيّ. ومن أبرز
مؤلفاته:
– ملاحظات حول الأرشيف، اسطنبول 1976م
– انطباعاتي عن دولة عبد الحميد وحكمه، اسطنبول 1976م
– قواله لي محمد علي باشا والي مصر، اسطنبول 1988م
– خير الدّين باشا التّونسي، أنقرة 1988م. أعلى النموذج