وكلا السياستين لا تمثّلان الكاتبين المذكورين أبداً، بل بالعكس، فإن السياسات المعاصرة في قطبَي العالم العسكريَّين تُبدي عداءً واضحاً وصريحاً للقيمة الإنسانية الكبرى التي كان كلٌّ من مارك توين
ودوستويفسكي يعبران عنها، وهي الحرية، ولن يكون بوسع السياسة الروسية أن تمثّل ما كان يدعو إليه الروائي، فقد تبنّى منذ شبابه الدعوة إلى الحرية، ومن المعروف أن القيصرية قمعت الانتفاضة الديسمبرية التي شارك فيها، ووصل إلى حبل المشنقة، ثم أُعفي عنه ونُفي إلى سيبيريا حيث كتب عمله الشهير “ذكريات من بيت الأموات “. ومن المؤكد أن روائياً مثله سيكون مناهضاً لسياسات بلاده المتّسمة بمحاربة الحرية في العالم اليوم.
وأمّا مارك توين، فقد قدّم في روايته “هكلبري فن” النموذج الإنساني الذي أعقب الحرب الأهلية الأميركية، حيث كان “جيم” في الرواية هو النموذج الجديد الذي يمثّل من نالوا حريتهم ممن كانوا عبيداً في الحقب السابقة. وفي المغامرة التي يخوضها هكلبري فن وجيم في الرواية، تظهر تلك السمات الأخلاقية العظيمة التي يتمتع بها. ولهذا فإن من الطبيعي أن يكون مارك توين خصماً أكيداً لسياسات الإدارات المتعاقبة على الحكم في أميركا، وأن تكون رواية مثل “هاكلبري فن” هي التي تدافع عن القيم الإنسانية وتدين التمييز العنصري الذي يميّز سياساتهم اليوم.
لن تجد كاتباً عربياً يقول إنه ضد الحرية التي كان يطالب بها دوستويفسكي أو بوشكين أو توم بين أو مارك توين، ولكنك سوف تجد أنهم يختصمون ويتنازعون إلى حدود الحرب حول الحرية كمطلب إنساني يدعو إليها أو يطالب بها هذا الكاتب العربي أو هذا الطرف من أبناء الشعب.
ولك أن تتأمّل وتعجب مما يقوله كاتب مثقّف مثل أحمد بيضون عن الربيع العربي في كتابه “الربيع الفائت”، والذي رأى في التحرُّكات الشعبية عيداً سياسياً، لم يفته أن يقدّم لها تحليلاً ونقداً عميقَين، وما يقوله مثقّف آخر هو ناهض حتر في كتابه الذي تعمّد أن يحرم الربيع فيه من أل التعريف فكان عنوانه “ربيع زائف”، ووجد فيه انقلاباً سلفياً ومؤامرة إمبريالية.
وثمّة من يعتلي المنابر اليوم ليتحدّث بلهجة المؤدّب للمشاغبين عن “الحرية المسؤولة”، محاولاً أن يعيد تعريفها بما يتناسب مع متطلّبات هذا النظام الحاكم أو ذاك في العالم العربي. ويمكن لمثل هذا التنظير أن يراجع أي تحرّك فردي أو جماهيري للمطالبة بالحرية، فيعتبره لا مسؤولاً. والطريف أن يفكر أحدهم اليوم بملاحقة دوستويفسكي من جديد، أو يدّعي على توم بين.
المصـــدر: العربــي الجديد، 17 مايو 2019