بقلــم: ليلــى ذيـاب
يعلم الجميع قصة الخلاف الذي انفجر في ستينات القرن الماضي بين الرّئيسين الرّاحلين جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة[1] خاصة بعد خطاب بورقيبة في أريحا سنة1965م[2] حول تقسيم الأراضي الفلسطينيّة بين إسرائيل وأهل الديار. واُتّهم بورقيبة حينها بالخيانة، وتعالت الأصوات المناهضة له، وشهدت البلدان العربية مظاهرات عارمة تندّد بأفكار بورقيبة وموقفه من القضية الفلسطينية، وظهر جمال عبد الناصر في موقع الزّعيم العربي المدافع عن حقوق البلدان المستضعفة من بينها فلسطين.
هذا ظاهر الخلاف المعلن، لكنّ المدقّق في العلاقات التّونسية المصرية يرى أنّ الخلاف يعود إلى خمسينات القرن الماضي. وتتمثّل حقيقة هذا الخلاف في احتماء صالح بن يوسف[3] بمصر بعد رفضه للاستقلال الدّاخلي[4] للبلاد التّونسية ودعوة شقّ من المناضلين إلى مواصلة الكفاح المسلّح من أجل الاستقلال التّام، الأمر الذي أغضب بورقيبة المتّبع لسياسة المراحل في المطالبة بالحقوق المنتهكة من قبل المستعمر الفرنسي. حينها طلب بورقيبة من مصر وعبد النّاصر على وجه الخصوص تسليم صالح بن يوسف الصّادر في حقه الحكم بالإعدام، لكن السّلطات المصرية رفضت ذلك و اعتبرت أنّ هذا من حقوق اللاّجئ السّياسي.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أنّ صراع الزّعامة هو المسيطر على أفكار كل من بورقيبة وعبد النّاصر. فبورقيبة يرى أنّه الأجدر بهذه الصفة في العالم العربي، في حين كان عبدالناصر من دعاة القوميّة العربية، فهو إذن الأقرب إلى الزعامة حسب اعتقاده.
ساهم الخلاف البورقيببي النّاصري في توتر العلاقات بين البلدين، ثمّ عادت المياه إلى مجاريها إثر زيارة عبدالناصر لتونس في الذّكرى الأولى للجلاء عن بنزرت[5] ، لكنّها عادت لتتوتر من جديد بعد خطاب بورقيبة في أريحا حول قرار التّقسيم الأممي للأراضي الفلسطينية. ويذكر بعض الأشخاص المقربين من بورقيبة أنّ عبدالناصر كان على دراية بموقف الحبيب بورقيبة الذي طلب منه المساندة في إعلان هذا القرار، لكن عبدالناصر رفض متعللاً أنّ ردة فعل الشّارع العربي ستكون حادّةً وعنيفةً خاصة وهو زعيم الوحدة العربية، ولذلك واجه بورقيبة عواقب أفكاره وقراراته بمفرده، فنعت بالخيانة، وحاولوا اغتياله ممّا اضطّره إلى قطع رحلته في الشّرق والعودة إلى تونس[6].
تتالت الخلافات العربية حول قضية فلسطين، ورُفعت الشّعارات وغابت الأفعال وظلّ الفلسطينيون دون وطنٍ، في حين قبلت إسرائيل القرار الأممي، وها هي لا تزال تتوسع على حساب الأراضي العربية، وبقي شعب فلسطين يواجه مصيره بنفسه دون مساندة تُذكر.
المصادر والمراجــع:
- الحداد، محمد، الحبيب بورقيبة-جمال عبدالناصر اعتراف متأخر خطير الدلالة: جريدة الحياة، 17مارس2002م.
- القليبي، الشاذلي، أضواء من الذاكرة: الحبيب بورقيبة (ترجمة محمد معالي-مراجعة عبد العزيز قاسم).
- القلال، عبدالسلام، الحلم والمنعرج الخطأ، ، دار الجنوب للنشر، تونس 2018م.
- الحباشي، محمد علي، السّاحة السياسية والنّقابية 1955-1999م، أوريس للطباعة، تونس، نوفمبر 1999م.
- التميمي عبد الجليل، في منهجية السياسة البورقيبية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي ماي2004م.
هوامــش:
[1] الحبيب بورقيبة، (1903-2000)، أول رئيس للجمهورية التونسية. دامت فترة حكمه ثلاثين عاما (1957-1987)، فرضت عليه الإقامة الجبرية بمنزله إلى أن توفّي.
[2] خطاب أريحا :خطاب ألقاه بورقيبة في 3مارس1965م، وفيه دعا الفلسطينيّين إلى قبول التقسيم الأممي وإقامة دولتهم.
[3] صالح بن يوسف (1907-1961) من أبرز قادة الحركة الوطنية التّونسية الذين خاضوا حرب الاستقلال. تقلّد عدة مناصب في الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد، كما تولى وزارة العدل في حكومة محمد شنيق 1950-1952م، عارض سنة 1955م الاستقلال الدّاخلي الذي قبله بورقيبة. وقع اغتياله في جوان1961م بألمانيا.
[4] الاستقلال الداخلي: هو المرحلة الأولى التي حققتها الحركة الوطنية لاسترجاع سيادة تونس، وكان ذلك في جوان 1955م، ويعتبر تمهيدًا للاستقلال التام.
[5] الجلاء عن بنزرت: مواجهة مسلحة دارت في جويلية 1961م بين القوات الفرنسية المرابطة قرب مدينة بنزرت والجيش التونسي وتسانده أعداد من المتطوعين. انتهت الحرب بجلاء القوات الفرنسية عن بنزرت ومغادرة آخر جندي فرنسي للأراضي التّونسية في 15أكتوبر1963م، وليُتّخذ من ذلك التاريخ عيدًا وطنيّا.
[6] أنظر كتاب دراسات في منهجية السياسة البورقيبية الصادر عن مؤسسة التميمي للبحث العلمي ماي2004م للمؤرخ عبد الجليل التّميمي.
طبيعة الخلافي البورقيبي الناصري
إن الزعيم المرحوم الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الأسبق، الداهية السياسي الذي كان سابق عصره بعقود من الزمن، بنى الجمهورية التونسية وترك بصماته العميقة في تربية الإنسان التونسي وعلى الصعيد العالمي فقد كان له فكر استراتيجي بعيد المدى. قدم عام 1965 اقتراحات واقعية عملية واقعية لحل النزاع العربي الفلسطيني لكن الرؤساء العرب، آنذاك، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر صاحب الثقل السياسي القومي آنذاك، رفضوا اقتراحات بورقيبة رفضا قاطعا إلى درجة أن نشب خلاف مباشر بينه وبين جمال عبد الناصر الذي اعتبر اقتراح بورقيبة خروجا عن الصف العربي، بل خيانة في حق القضية العربية، أما الآن وبعد نصف قرن فهيهات أن يتواضع اليهود للتفاوض مع العرب حول القضية الرئيسة لهم.
إن فلسطين قد تستقل بعد أنن يشيخ الكبار ويكبر الصغار