بقلـم: الأستاذة سناء إلاهي
I– توحيدة بن الشيخ : مسيرة علمية بين التفوق والتألق:
ولدت توحيدة بن الشّيخ في 2 جانفي سنة 1909م في تونس العاصمة (نهج الباشا)، وتنحدر من عائلة أصيلة مدينة بنزرت في فترة الحماية و تحديدًا زمن حكم الباي الحنفي المذهب محمد الناصر باي(1855-1922)[1]عرفت هذه الفتاة يتما أبويّا، فقد توفّي والدها وهي لم تتجاوز الثلاثة أشهر، لكن هذا اليتم الأبوي لم يكن عائقًا في مسيرتها العلمية لأنّ والدتها حلومة بن عمّار أخت الطاهر بن عمّار (1889-1985) قد عوّضتها هذا النّقص الذكوري الأبوي بفكر نسويّ مبني على أهميّة العلم ودوره في نشر الوعي لدى المرأة، وأكّدت بذلك فكرة أساسية مفادها أنّ اليتم الحقيقي هو اليتم الفكري .
وقد أكدت توحيدة ذكاء والدتها وتفهّمها أكثر من مرّة في لقاءاتها وحواراتها إذ صرّحت في حوار لها مع الدكتور عبد الجليل التميمي: “لقد كانت أمّي ذكيّة ومتفهّمة، فهي من عائلة ميسورة، كما أنّ السيّد والسيّدة بورني حدّثاها عن إمكانية السماح لي بالسفر لمواصلة دراستي. وقد حظيت بتأطير ودعم متميزين من قبل السّيد والسيدة بورني التي رافقتني شخصيّا إلى باريس. لذلك عندما حدّثت أمّي بالأمر لم تمانع، رغم ممانعة سي الشاذلي العقبي الذي تكفّل بشؤون العائلة بعد وفاة أبي وكان شيخ مدينة تونس”[2].
لقد كانت حلومة بن عمار بن الشيخ ظلاّ لابنتها توحيدة وكان لها الدور الأساسي في النجاح إذ شجّعتها وحفّزتها على طلب العلوم المعاصرة، وهذا يتأكّد في المسيرة العلمية لهذه الطبيبة، فقد زاولت تعليمها الابتدائي في أحد المدارس الفرنسيّة العصرية، وبعد نجاحها في المرحلة الابتدائية التحقت بمعهد “آرمون فاليار” وتحصلت سنة 1928م على شهادة الباكالوريا. وزادها هذا النّجاح إصرارًا على المزيد من التقدّم والرقيّ في درجات العلم. أرادت دراسة الطبّ والبلاد التونسية في تلك الفترة ترزح تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، بل إنّ التعليم في الربع الأول من القرن العشرين كان تعليمًا زيتونيّا، ومن الصّعب جدّا في هذه المرحلة أن يستوعب الفكر التّونسي سفر فتاة تونسية للدراسة في أوروبا، وقد شجعها الدكتور بورني على هذا التخصص وزادها إصرارًا على التحدي. قال لها الدكتور بورني بالحرف الواحد: “يا صغيرتي إذا أردت الدّراسة فعليك أن تدرسي الطبّ مثلا، يجب عليك أن تدخلي من الباب الكبير وتذهبي إلى فرنسا.”[3]
واجهت توحيدة عدّة عراقيل قبل سفرها إلى فرنسا، ومن بين هذه العراقيل جمود العقليّة التونسيّة خصوصا والعربية عمومًا والتي تقرّ بدونيّة المرأة والانتصار للثّقافة الذكورية والتاريخ الذكوري. وهي عقلية عدائية تسعى لطمس المرأة جسديّا و فكريّا.
وقد كتبت سميرة كربول في هذا الإطار:” إن جهل المسلمة يعكس عقليّة مجتمعها، وهي عقلية، حسب الكثير من الكتاب فيها الكثير من العداء لجنس المرأة، إذ اعتبروا أن هذا الفكر الذي يركز على مصلحة الرجل، يسعى إلى طمس كيان المرأة وإلى نفيها كذات فاعلة ومحرّكة في المجتمع، وقد كانت وسيلته في ذلك الحجب، لا فقط حجب جسدها وشخصيتها وراء الخمار وداخل الحريم، بل كذلك حجب فكرها عن العالم الخارجي وذلك بمنعها عن التعليم، أي منعها عن الانفتاح على العالم المحيط بها عبر الكتاب و عبر الفكر.”[4]
هذه العقلية العمودية الشالّة التي تؤمن بأفضلية الرجل علميّا كانت تؤمن بها عائلة والدة توحيدة بن الشّيخ، حيث منعوها منعا قاطعًا من السفر، وهنا أذكر حدثا هاما ميّز حياة توحيدة بن الشيخ وأثبت دور والدتها في تحدي هذه العقلية. ففي اليوم الذي ستسافر فيه توحيدة سمعت والدتها بأقاربها سيحولون دون سفرها فقالت لابنتها : أسرعي إلى الصعود في الباخرة قبل أن تنطلق، وسأقنع أنا عائلتي، وبذلك قامت بتهريبها وتحدت عائلتها. وقد أكدت لي ذلك ابنتها زينب بن زينة في حوار معها في مقر بيتها بقرطاج. ومن هنا أضيف على مقولة “وراء كل رجل عظيم امرأة “مقولة “وراء كل امرأة عظيمة امرأة”.
انتهت والدتها بعد ذلك إلى إقناع عائلتها بأحقيّة المرأة في التعليم ومساواتها بالرجل معتمدة حججا تاريخية دينية ساطعة دامغة أقنعت بها عائلتها وأفحمتها. وقد أكدت توحيدة ذلك في حوارها مع الدكتور عبد الجليل التميمي الذي صرّح: “لكن يبدو أنّ والدتك قد استندت إلى النص الديني واستفسرت رأي شيخ الإسلام في الموضوع ذاكرة له تحديدًا قولاً مأثورا للرسول عليه الصلاة والسّلام: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد”. وقد أيّدها الشيخ في ذلك فردّت توحيدة بالشيخ هذا صحيح، فوالدتي كانت أرملة ومؤمنة جدا وتؤدي فرائضها الإسلامية بانتظام.”[5]
آمنت والدة توحيدة بن الشيخ السيدة حلومة بمبدأ مساواة المرأة للرّجل في النهل من العلم ولم يكن ذلك على المستوى النّظري فحسب بل كانت هذه المرأة عملية، إذ كان لها السبق في التعلم و الارتواء من ينابيع علوم الطب الحديثة في إحدى العواصم الأوروبية، فصارت قدوة لأخيها توفيق الذي التحق بها لدراسة الحقوق في فرنسا. وقد أكّد الدكتور عادل بن يوسف ذلك: “وفي جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين ربطت علاقات مع عديد الطلبة التّونسيين والمغاربة والجزائريين، لاسيما بعد أن أصبح شقيقها توفيق بن الشّيخ الطالب بكلية الحقوق عضوا في المجلس الإداري للجمعية خلال السنة الجامعية 1931/1932”[6].
- الوعي الطبي و أثره في الفكر التقدمي النسوي
تشبعت توحيدة بن الشيخ بالعلوم العصرية، وعندما عادت إلى تونس رفعت لواء الحداثة وعملت على نشر الوعي في صفوف بنات جنسها. وقد حرصت هذه المرأة على نشر الوعي الطبي من زاوية نظريّة إذ كتبت في مجلة “ليلى” أول مجلة نسائية تونسية برئاسة محمود زروق التي كانت فضاء رحبا للكتابة باللغة الفرنسية والتعريف بفكرها المتنور فعثرت في مجلة ليلى على مقال بعنوان “الطبيبة تحدثكم”[7].
قدمت في هذا المقال غير الممضى نصائح طبية لداء الصداع (الصداع النصفي) المعروف بالشقيقة، فعرفت هذا المرض وتطرّقت إلى أسبابه أغراضه وانعكاساته، وكيفية الوقاية من هذا الداء وطرق علاجه. وقدّمت نظاما للأكل لمقاومة هذا الداء ودعت إلى الاستشارة الطبية الدائمة. إذن كانت تؤمن توحيدة بأهمية دور المرأة في الحياة اليومية وفي تربية النشء، واعتبرت أن مرض الصداع الجزئي من الآفات التي تهددها وتحول دون القيام بوظائفها على أكمل وجه.
تعتبر توحيدة أن سلامة المرأة ووقايتها تماسك للأسرة والمجتمع، وفي تهميشها صحيا تهميش للمجتمع وللواقع الإنساني. قامت هذه الطبيبة على المستوى العملي بتأسيس مجموعة من الجمعيات الطبية، كما أسست جمعية الإسعاف الاجتماعي، وتولّت رئاستها و كانت هذه الجمعية وراء مشروع إقامة دار الأيتام (1950) و دار المرأة .
وفي سنة 1950م أسّست “جمعية القماطة التونسية” للعناية بالرضع من أبناء العائلات الفقيرة، وكان هذا النشاط الاجتماعي حافزا لنشر الوعي بين فئات هذه الطبقات الضعيفة. وفي زيارتها للأرياف وتقديمها للمساعدات الاجتماعية فكّرت في سياسة التنظيم العائلي، هذه السياسة التي تمكن المرأة من الالتفات لنفسها وإيجاد الوقت للمساهمة في الحركة الاقتصادية فتكون بذلك عنصرا فاعلاً و قادرًا على مزيد البذل والعطاء، ففي تحديد النسل تنظيم لحياة الأسرة خصوصًا والمجتمع عموما. فقامت إذن بتوعية المرأة ، وشاركت في عدة منتديات و ملتقيات لتعميم هذه الفكرة و ترسيخها.
وقد أكدت السيدة الدو القايد ذلك إذ كتبت :”وفي سنة1968م ساهمت الدكتورة توحيدة بن الشيخ في تأسيس الجمعية التونسية للتنظيم العائلى. وأحدثت أول مصحة في الغرض كانت مثالاً يحتذى في بلاد المغرب والقارة الإفريقية كلها. تولت الدكتورة توحيدة بن الشيخ إدارة التنظيم العائلي والعمران البشري، التي أصبحت فيما بعد ديوانا وطنيّا . وأوكلت لها وزارة الصحة مهمات صعبة من أجل برنامج وطني يضمن صحة العائلة”[8].
إذن كانت هذه الطبيبة الأولى مغاربيّا و شمال إفريقيّا سبّاقة في وضع أسس الحداثة، وذلك بترسيخ فكرة تحديد النسل والتنظيم العائلي. و قد أكد هذا ولدها فيصل بن زينة في حوار مع الدكتور عبد الجليل التميمي إذ صرّح :”ما أحمله من ذكريات حول التنظيم العائلي يدفعني بأن الجذور الأولى لهذه الفكرة تعود إلى توحيدة بن الشّيخ. في ذلك الوقت كانت تونس مع الحبيب بورقيبة. وحوالي سنة1964م تبنت هذا التوجه، وكانت أمي على علاقة مع عديد المنظمات العالمية، وكانت دائما تراسل كثير المنظمات التي ساهمت ماديا وبتجربتها الواسعة لتفعيل التنظيم العائلي في تونس. ولا أخفيكم سرّا أنّ التنظيم العائلي إبان فترة الستينات لم يكن معروفًا حتى في الدول المتقدمة. لذلك لم يكن هناك رصيد تجارب كبير في هذا الشأن”[9]. إذن نشاط توحيدة بن الشيخ كان نشاطا ميدانيا فهي لم تقتصر على التنظير فحسب بل كان تفكيرها واقعيا عمليّا، وهذا التفكير العلمي ينبني على العقلانية.
ومن هنا نتبين أن القضية عند توحيدة بن الشيخ ليست قضية صراع بين الرّجل والمرأة كما أنها “ليست قضية تشريعات وقوانين فحسب، وهي أيضا ليست قضية عقليات، وعقلية المرأة (أو الرجل) لن تتغير إذا لم يتغير المحيط الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي الذي يرعاها[10]“.
في الوقت الذي احتدّ فيه الجدل حول قضيّة تحرير المرأة مشرقًا ومغربا من خلال الدراسات التنظيريّة التي لم تختمر في الأذهان العربية عموما والتّونسية خصوصا لمع نجم الطبيبة توحيدة بن الشيخ التي جسدت مفهوم حرية المرأة وقدرتها على التميّز فكريّا ومواكبة فكرة التّقدم وذلك بممارسة ما تلقته من علوم الطب في فرنسا، وإنارة السبيل لبني وطنها وخاصة بنات جنسها بتوجيههن وتوسيع ثقافتهن الطبية . إذن بالتنظيم العائلي تستردّ المرأة مكانتها العملية فتساهم اقتصاديّا واجتماعيا وفكريا، وسياسيا في تأسيس دولة حداثية. ومن هنا نتبين أن التركيز على ما هو مادّي واضح في تفكير هذه المرأة، فما هو اقتصادي واجتماعي يجب أن يعدّل مسار ما هو عقلي وإرادوي، إذ لكلّ مسألة سواء أتعلقت بالمرأة أم بالتعليم أم بالشغل “أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، ولا تكون المناقشة جادّة ومجدية إلاّ بتدارس جميع هذه الجوانب[11]“.
ومن هنا نلاحظ أن وسيلة تحرير المرأة الحديثة هو العمل الخلاق لأن كثرة الإنجاب يعوق هذا المسار التحرري. فالمرأة إنسان، إذن، قبل أن تكون امرأة وبسبب هذه الصفة فهي سواء أكانت مسيحيّة أم مسلمة أم بوذيّة أم ملحدة لا تحقق ذاتها، انطلاقا من الأمومة وحدها أو من الانتماء المذهبي وحده، وإنّما انطلاقا من المساهمة في صياغة ملامح الطبيعة بوسيلة العمل، فكريا كان أو يدويا. فالمرأة العاطلة أو ربّة البيت الثريّة التي تشغل “قطيعاً” من الخادمات إنما تعيش انطلاقا من انعدام صفة “العاملة” حالة شذوذ عن الحضارة.
- توحيدة بن الشيخ نموذج الوعي الفكري في فضاء الاتحاد النسائي الإسلامي (1936-1956)
أسست بشيرة بن مراد (1913-1993) ابنة محمد الصالح بن مراد (1880-1979) أحد شيوخ جامعة الزيتونة الدينية وصاحب كتاب” الحداد على امرأة الحدّاد” أو ردّ الخطأ والكفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، أوّل اتحاد إسلامي نسائي تونسي سنة 1936م و كان للاتحاد النسائي الإسلامي علاقة وثيقة بالطلبة التونسيين بفرنسا وبجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا، وكانت توحيدة من ضمن طلبة شمال إفريقيا.
إن سبب تأسيس الاتحاد هو أساسا سبب خيري فقد ” وقع اجتماع نسائي أولا في 17ماي 1936م حضره جمع من نساء العاصمة وزوجة أرمان قيون ونائبة عن الملكة حرم أحمد باشا باي، وكان الهدف جمع تبرعات لفائدة الطلبة التونسيين بفرنسا جمع خلاله 10000 فرنك. وفي اجتماع مماثل يوم 3 ديسمبر 1936 م انبثقت جمعية نسائية سميت الاتحاد النسائي الإسلامي[12]“. هذا الاتحاد النسائي الإسلامي ضمّ سنة 1936م اثنتي عشرة عضوا، ولا تتفق المصادر والمراجع في ذكر أسماء بعضهنّ، وإن كانت تتفق في ذكر أسماء المشرفات الأساسيات على هذا الاتحاد وهنّ أساسا: بشيرة بن مراد زوجة صالح الزّهار (رئيسة)، وأختها حميدة (كاتبة عامة) وهي التي ستتزوج نهاية الأربعينات من الطاهر الزهار، وأختهما نجيبة بن مراد التي ستتزوج فيما بعد المنجي القروي، إضافة إلى آسيا بن مراد التي ستتزوج لاحقا محمود بن ميلاد أخ الطبيب أحمد بن ميلاد.
إذن هذا الاتحاد البنمرادي الإسلامي قد قام باحتفال أثناء تخرّج الطبيبة توحيدة بن الشيخ حيث ألقت سارة بن الخوجة كلمة بمناسبة حفل التكريم أثبتت فيها المجهود الذي قامت به توحيدة بن الشيخ، مفتخرة بما بلغته من علم و معرفة، فهي ترى فيها ذاتها و ذات كلّ تونسية ترزح تحت كلّ أنواع الجمود والتّخلف والاستبداد بكل أنواعه. فقد صرّحت نجيبة متحمسة بقولها: “سيدتي المحتفل بها، دامت معاليك وسعدت أيامك ولياليك، بأي عبارة أحليك وبأي منزع من منازع البلاغ أثني عليك، لقد كنت بنجاحك العلمي أولى التّونسيات. ففتحت لنا طريق المجد الخالد والرقيّ المنشود، لقد كنت المثل الأعلى للبنت التونسية، لقد كنت أول نور سطع في أفق النهضة النسوية المباركة، لقد كنت أعظم قوة للنشء النسائي، فحق لك الفخر. وحق لنا أن نمجدك سيدتي توحيدة بن الشيخ لك البشرى حيث جعلك الله سببًا لرحمة الضعفاء والمساكين[13]“.
هذه الكلمة التي ألقتها سارة بلخوجة ابنة علي بلخوجة المدرّس بالكلية الزيتونية كانت في قالب مدحية كانت الغاية منها تشجيع المرأة المسلمة على انتهاج هذا النهج الذي ينير طريقها ويرتقي بها إلى الإنسانية، وهذا ما أكدته نجيبة بن مراد أخت بشيرة بن مراد في هذه المناسبة بقولها: “سيداتي إن أختنا الحكيمة قد قامت بواجبها الوطني والإنساني، يجب علينا أن نقوم بواجبنا نحوها، وهو تعضيدها وتشجيعها على عملها الصالح، حتى تنقطع لخدمة أخواتها المحتاجات إليها. أيتها الأخت الكريمة توحيدة، إنا نهنئ أنفسنا بوجودك بيننا، ونهنيك على ما أحرزت عليه من المجد العلي الذي يبقى على مرور الزمان، و الذي سيقترن بالعمل المثمر المفيد، فالله يحرسك لإخوانك ولوطنك ولجميع أهل بلادك”[14].
وفي هذه المناسبة أكدت ضرورة إعانة المحرومين والأيتام والفقراء و التذكير بأهداف الاتحاد الأساسية. وهي أهداف اجتماعية تتمثل في تقديم الإعانات للمرأة الفقيرة العاجزة مادّيا و فكريّا و نفسيّا عن تربية أبنائها “صبية أيتام مات عائلهم، وهم يقاسون ألم الجوع، و أمهم تتفتت كبدها عاجزة عن الارتزاق والتكسب، حتى إذا ما ضعفت عن تحمل ذلك المشهد، خرجت هائمة على وجهها وقضت نهارها في الطواف بلا نتيجة، ثم رجعت إليهم بيد فارغة و الأخرى لا شيء فيها[15]“.
وفي نفس السياق خطبت رئيسة لجنة الاحتفال بشيرة بن مراد التي كان تعلّمها تعلّما تقليديّا مقارنة بتعليم توحيدة بن الشيخ العصري. إذ كتب بشيرة بن مراد بنبرة من الإعجاب والانبهار: “سيداتي إن هذا اليوم من أسعد أيام المرأة التونسية بحق ترفع فيه رأسها وتضع قدمها فوق نجم العظمة و الاعتبار…سيداتي: هاكن الحكيمة توحيدة التي رأى جميع نسوة هذه البلاد أن يحتفلن بها اليوم تقديرًا لمجهوداتها الرابحة وأعمالها الوطنية الناجحة. رأت ابنة تونس الكريمة أن أخواتها محتاجات إلى من يسوس أبدانهن ويحفظ صحتهن ويقاوم عللهن فلبّت الواجب الوطني، وعملت في ذلك السبيل، وتغربت عن الأهل والوطن إلى أن حصلت على شهادة الحكمة، وسدت فراغا عظيما وحاجة أكيدة[16]“.
لن يشك أحد في تعلّق بشيرة بن مراد بفكرة ضرورة تعليم المرأة و لكن القضيّة التي تهمنا بالأساس ليست هذه القضيّة إذ يعسر أن نجد في العائلات التونسية الحضرية في المدن الكبرى عائلة تشك في ضرورة تعليم المرأة و إنما هي قضية مضمون هذا التعليم:هل يكون هذا التعليم تقليديّا يحافظ على أسس المجتمع التقليدي أم تعليما حديثا عليه شاء ذلك أم أبى،أن يكون تعليما فيه قدر لا يستهان به من القيم الغربية الرأسمالية المعادية للقيم التي يقوم عليه المجتمع التقليدي.
إن موقف بشيرة بن مراد من هذه المسألة واضح لا لبس فيه فقدوة المرأة التونسية بداية من الثلث الثاني من القرن العشرين يجب أن تكون المرأة العربية المسلمة في حجاز القرن السابع الميلادي :” الأم هي المدرسة الأولى و الولد يشيب على ما شب عليه فإذا قامت بواجبها نحوه كان مظهرا من مظاهر الرجولة و التضحية و الإقدام فتكون هذه الأم هي السعادة تنشدها الأمة ووسيلة حياتها.إن التاريخ أعظم شاهد على ما نقول:فإن المرأة زمن عظمة الإسلام كانت أرقى النساء علما و ثقافة ووطنية و إخلاصا في القيام بواجب الأمانة. و لذلك كان المسلمون في أعلى درجات الكمال.قد كانت المرأة في عصر تاريخها الزاهر لا تشتغل بسفاسف الأمور ولا بمحقراتها ولها من الكمالات ما أهلها لمسايرة الرجل جنبا إلى جنب لرفع راية مجد الإسلام في دائرة الشرع الحكيم الذي أعطاها من الحقوق ما لم تحلم به المرأة في بلاد المدنية الآن[17].”
دعت توحيدة بن الشيخ إلى تعليم المرأة التونسية حتى تنافس المرأة الغربية، كما أكدت أهمية دور الطب في استئصال الداء من الجسد مثل أهمية العلم ودوره في استئصال الداء من الأذهان. إن مهمّة الحكيمة تتمثل في التوعية وإسداء النصح ونشر العلم وتأطير المرأة التونسية لتنتهي في النهاية إلى العلاج الجسدي وعلاج العقلية التي تتسم بالجمود و الخمول في تلك الفترة.
خطبت توحيدة بأعلى صوتها :”نعم قرأت الطب لأخدم بني وطني، فالطب صناعة شريفة والمرأة أحرى بها من الرجل لأن المرأة أكثر منه حنانا وشفقة…لذلك أوجه ندائي إليكن يا أخواتي جميعا لتعليم بناتكن حتى لا تمتاز علينا المرأة الإفرنجية بالمعارف وخدمة المشاريع الوطنية وأن لا نقلدها في السفاسف والمهازل ونترك النافع المفيد”[18].
نستنتج أن تفكير توحيدة بن الشيخ هو تفكير مميز عن بقية النساء التونسيات لأنّها كانت ميالة إلى تغليب الجانب العلمي في تفكيرها على غيره من الجوانب، خاصة أنها شغلت منصب طبيبة وعملت على نشر ثقافة صحية كاملة، ورأت في تحديد النسل خلاص المرأة و تفوقها في المجتمع التونسي. وقد صرحت فتحية المختار مزالي :”ووجدت من الزعيم الحبيب بورقيبة كل التأييد والمساندة في العمل على نشر ثقافة صحية وجنسية للحدّ من الإنجاب. وتعاونت في هذا الصدد مع الدكتورة توحيدة بن الشيخ، التي حضرت محاضرتها في الموضوع، وتقرر تنظيم ندوة في الغرض وحملات تحسيسية. كما كانت السيدة فتحية مزالي رئيسة النّادي القومي النسائي من سنة 1963 إلى سنة1965 م ونائبة رئيس الجمعية التّونسية للتنظيم العائلي[19]“.
VI– توحيدة بن الشيخ تفتح الأبواب لأجيال من الحكيمات
لقد كانت توحيدة بن الشيخ سباقة إلى مهنة الطب، فلم يسبقها في هذا الاختصاص أحد من الإناث، وقد شاءت الأقدار أن تفتح لها أبواب العلم بموت والدها، وربما لو كان والدها على قيد الحياة لمارس طقوس الفكر الذكوري بحجبها و لحال ذلك دون تألقها وتميزها في مجال العلم بدليل أن السّيدة حلومة بن عمار والدة توحيدة هي الزّوجة الثانية، وكان أبناؤه من الزوجة الأولى على قدر محدود من العلم، إذ لم يشجعهم والدهم على مواصلة دراستهم العليا، كما أنه يعتبر الدراسة أمرا ثانويّا عكس والدتها التي فتحت لها الأبواب أبواب دراسة العلوم الطبية بالخارج وهي بدورها ستفتح الأبواب لأجيال من الحكيمات في مجال العلم .
تعدّ هذه المرأة ظاهرة علميّة نادرة في ذلك الوقت، فكان خروجها ميدانيا على أرض الواقع لتحقق ذاتها وتثبت كيانها و تفتح الأبواب لبنات جنسها، خاصة في هذه الفترة بالذات أي أواخر عشرينات القرن العشرين وبداية الثلاثينات حيث احتدّ الجدل حول قضيّة تحرير المرأة، فظهر كتاب” امرأتنا في الشّريعة و المجتمع” للطاهر الحداد الذي لاقى معارضةً من شيوخ الزيتونة، حيث خاض في جوانب تشريعيّة وجوانب اجتماعية تهم المرأة، فرد عليه محمد الصالح بن مراد في كتاب” الحداد على امرأة الحدّاد”، والبري المدني في “سيف الحق على من لا يرى الحقّ”، وذلك لأن الفكرة لم تختمر بعد في الذّهن ومن الصعب جدّا استيعابها من قبل المجتمع التّونسي الذي أنهكه الفقر في ظل الاستعمار والعقلية الأفقية للمرأة، إن لم نقل عدائية تتشدق بالفحولة وبالتّاريخ الذكوري .
هذه المرأة لم تكن في ميدان الأدب، ولم تكن صاحبة مجلة نسائية أدبية كما هو الحال في المشرق مثل مجلة” الفتاة” في القاهرة، أو مجلة”الحسناء ” في لبنان، ولم تكن صاحبة صالون أدبي على غرار المصرية نازلي فاضل أو اللبنانية مي زيادة، أو السورية مريانا مراش اللائي مهدن للحركة النّسائية في المشرق، بل إن هذه المرأة لم تكن ذات ايديولوجيا معيّنة أو اتجاه فكريّ سياسيّ معين يخدم قضيةً سياسيةً، بل قضيتها الوحيدة هو تحقيق أمنيتها الوحيدة وهي دراسة الطب وإفادة بنات جنسها، وخدمتهن وفتح الأبواب لهن باعتبارها نموذجًا يحتذى في العلم.
فبالعزيمة و الإرادة حققت أهدافها المرجوّة، ولا ننسى دور والدتها والدكتور بورني الذي زاد في تشجيعها وتفجير طاقاتها العلمية . إذن لم تتأثر هذه المرأة لا بالطاهر الحدّاد ولا بقاسم أمين، ولا برواد الإصلاح بدليل أنّها سافرت إلى فرنسا ونظرت إلى الأمام وآمنت بقيمتها العلمية ودورها الرّيادي، ولم تضيّع الوقت في التّنظير الإيديولوجي وإقناع الخصوم بحجج دامغة ساطعة، بل كانت هي الحجة والبرهان، كانت هي الدليل القاطع، دليل أول طبيبة تونسيّة، بل أول طبيبة في المغرب العربي تكسر الأغلال وتنحت اسمها في فرنسا، وتزاحم طلبة شمال أفريقيا بفرنسا، فكانت الطالبة الوحيدة وسط الرّجال الذين كانت نظرتها لهم نظرة أفقية تواصلية. وتلتقي عزيمة هذه المرأة وإصرارها على العطاء الفكري بمصير جيل كامل من المثقفين والمثقفات التونسيات. فلقد حمّست توحيدة بن الشيخ بنات جنسها لاتباع مسارها العلمي الحافل، فكانت مثالا يحتذى، كانت قدوةً لمن سيأتي بعدها.
الطبيبة الثانية بعد توحيدة بن الشيخ هي حسيبة غيلب التي ولدت في 19 من أكتوبر سنة 1916م بتونس ودرست بالمعهد الثانوي نهج روسيا، وبعد نجاحها في امتحان الباكالوريا سافرت إلى الجزائر لدراسة العلوم الطبية، ومنها انتقلت إلى باريس لمواصلة تعليمها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم عادت إلى تونس بعد أن تخصّصت في طب الأطفال. وقد افتخرت بها تونسيات على غرار بشيرة بن مراد التي أقامت لها حفل استقبال كذلك الحفل الذي أقامته لتوحيدة بن الشيخ ليكون الاتحاد النسائي الاسلامي التّونسي ملتقى نخبة نساء تونس من العائلات البورجوازية مثل بنات محمد الصالح بن مراد (حميدة وآسيا ونجيبة وبشيرة) وأسماء بلخوجة وسارة بلخوجة وغيرهن من المثقفات التونسيات .
سعت الدّكتورة حسيبة غيلب إلى نشر الثّقافة الصحية، وحاولت ترسيخها في أذهان النّساء التّونسيات بالإضافة إلى مشاركتها في العمل الاجتماعي في الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي، وعملت طبيبة في مستشفى شارل نيكول في قسم الطب العام، وبذلك واصلت درب توحيدة بن الشيخ حيث فتحت عيادة خاصة بباب سويقة في تونس العاصمة، وشهدت هذه العيادة إقبالاً كبيرًا من قبل الأمهات وأطفالهن، وهذا الإقبال الكبير يعود إلى حسن أخلاق هذه المرأة ورقيّ مستواها العلمي الذي سيدفع المرأة إلى الأمام ويجعلها تواكب فكرة التقدم في مختلف مجالاته الحضارية .
شاركت هذه المرأة في الحركة الوطنية، وكشفت عن جرائم الاستعمار الفرنسي الذي مارس أبشع أنواع العنف تجاه المرأة التونسية باغتصابها والتحرش بها، فقامت بإعداد تقرير طبيّ لهذا الغرض بعد أن حققت في أحداث تازركة سنة 1952م، وكشفت عن اعتداء الجيش الفرنسي على الفتيات، وقد لاقى هذا التقرير نجاحًا كبيرًا وترك صدًى هاما لدى الأمم المتحدة . وشاركت هذه المرأة في عدة مؤتمرات دولية، وسافرت إلى اليابان وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، نهلت المزيد من العلم في المجال الصحي لتفيد وطنها.
انظمت حسيبة غيلب، بعد الاستقلال إلى الاتحاد القومي النسائي التّونسي، وقدّمت عدة خدمات صحية جليلة في مجال التّنظيم العائلي، حيث بحثت في الطرق الحديثة لتحديد النسل، ودعمت زميلتها توحيدة بن الشيخ في هذا المجال وفي هذه الفكرة . وقد كتبت السّيدة الدو القايد في هذا الإطار:
“كما انظمت (حسيبة غيلب) إلى الاتّحاد القومي النسائي التّونسي. وقدّمت صلبه جليل الخدمات في مجال الثقافة الصحية، والتنظيم العائلي. وشاركت في مؤتمرات دوليّة باسم المنظمة النسائية للبحث في الطرق الحديثة في ميدان التنظيم العائلي. وكانت لها مساهمات في حماية الأطفال من الأمراض وتقليص نسبة الوفيات والعمل على تنظيم الأسرة وتحسين رعايتها. وعملت في آخر السّتينات في القطاع الخاص. وافتتحت عيادة طبّية بباب البحر بالعاصمة[20]“.
إلى جانب حسيبة غيلب نجد “بدرة بن مصطفى” التي ولدت في عشرينات القرن العشرين وعاصرت بشيرة بن مراد، درست المرحلة الابتدائية والثّانوية بتونس، ثم انتقلت إلى الجزائر العاصمة لدراسة الطب هناك، وبعد حصولها على الدكتوراه في الطب رجعت إلى أرض الوطن وأقام لها الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي حفلة استقبال وتكريم وفرحت بها النخبة المثقفة وعدد من القادة السّياسيين .
شاركت بدرة بن مصطفى في الاتحاد النسائي الإسلامي التّونسي الذي رأسته بشيرة بن مراد، وساهمت في الأعمال الخيرية بتقديم المساعدة لطلبة شمال أفريقيا الذين يدرسون في فرنسا، فكانت بذلك رمز المثقفة المتنورة التي ستساهم في بناء صرح الحضارة الحديثة والخروج من مجتمع تقليدي لم يستوعب بعد فكرة التّقدم. هذه المرأة شاركت في حماية النخبة التّونسية في فرنسا (طلبة شمال أفريقيا) من الضّياع والانزياح عن وظيفتهم الأساسية بتقديم المساعدات المادية و تشجيعهم، ومن هنا نتبين أن المرأة التونسية المثقفة لها دور كبيرٌ في نجاح طلبة شمال أفريقيا في فرنسا، فالاتحاد النسائي الإسلامي التونسي بنسائه وأمواله التي قد جمعها من خلال التّبرعات قد حفّز النخبة المثقفة لأنهم الفئة التي ستنهض بالشّعب التّونسي سياسيّا واقتصاديا واجتماعيًّا .
شاركت بدرة بن مصطفى في الحياة الفكريّة السّياسية أيام الحركة الوطنية، حيث دخلت في العمل النّضالي السري وعرضت حياتها للخطر بإخفائها للمناضلين السياسيين ومدّهم بالمساعدات، وقد قامت بمغامرات جسيمة وتحمّلت الصّعاب لأجل تحرر بلدها من ظلم الاستعمار. كما ساهمت في التحقيق في جرائم الاستعمار مثل الاعتداء على نساء تازركة من ولاية نابل والاعتداء الوحشي عليهن و ذلك سنة 1952م.
كما عملت على نشر ما استفادت منه علميّا طيلة مسيرتها الطبية بين صفوف النساء التونسيات بحثّهن على التحلي بثقافة صحّية، ففي سلامة الأم و الطفل سلامة للمجتمع. كما أكدت هذه المرأة ضرورة تحديد النسل وذلك لكي تلتفت المرأة لنفسها وتواكب فكرة التقدم، فكيف بامرأة مثقلة بأعباء الأطفال والولادة أن تتقدم وتنتج وتفيد المجتمع وتدفع عجلة التنمية الاقتصادية.
المرأة المثقلة بالولادة وبتربية الأبناء ستتراجع صحتها بل ستنهار لأنها غير قادرة صحيا على مجابهة كل هذه الأعباء بمفردها، زد على ذلك إذا كان الرجل متسلطًا متجبرا يؤمن بالنّظرة العمودية الشّالة: الرجل / المرأة. لقد رفعت توحيدة بن الشيخ لواء الحداثة وكرّست فكرة التقدم وأثبتت أن المرأة كانت ندّا للرّجل بدليل أنها كانت المرأة الوحيدة في دفعة الأطباء في فرنسا.
ومن هنا نتبين النظرة العقلانية التّاريخية لهذه الطبيبة، فهي تطالب عمليّا بالمساواة بين المرأة و الرجل، كما أنها تنزل من التّنظير إلى الممارسة منتهجة في ذلك المنهج العلمي الدقيق وابتعدت عن التنظير والأدبيّات التي مّيزت عددًا من المثقفات التّونسيات في ثلاثينات القرن العشرين، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بختة بن موسى رئيسة فرع حمام الأنف للاتحاد النّسائي الإسلامي التونسي سنة 1948م التي اقتصرت في مقالها على التحليل النفسي للمرأة حيث أكدت:
“نفسية المرأة جديرة بالدرس والتّمحيص، عميقة غامضة يستحيل على الانسان إدراكها إلاّ إذا تغلغل فيها والتمس الطريق إلى قلبها، وهي في الوقت ذاته نفسيّة نقيّة طاهرة ليس من العسير أن تعرفها، وليس من الصعب الوصول إلى قرارتها هي غامضة أحيانا، شفافة أحيانًا أخرى ولكنها دائما متناقضة متباينة، قد تحس منها الحب والعطف، وقد ترى منها الجفاء و الإعراض، وقد تطوي لك بين حناياها كل أنواع المقت والكره، بينما تسمعك ألفاظا معسولة وتقابلك ببشر وإيناس.
هي أحيانا تبتسم ابتسامات عذبة رقيقة خلّابة، وقد تخفي وراء هذه الابتسامات انتقامًا ذريعًا. وقد تحكم عليها من جرّاء هذا الغموض، وهذا التّناقض بالخبث، ولربّما أسرفت وبالغت في اتّهامك فقلت إنها شيطان مستأنث يعبث بالقلوب ويرديها إلى هوّة السقوط، ولكنك لو دققت في طبيعتها وتعمّقت لوجدت أنك كنت في حكمك عليها قاسيًا وفي اتهامك لها متسرعًا. ربما امتازت المرأة بمقدرتها وبراعتها في التمثيل، ولربّما أمكنها أن تتفوق فيه حتى لتخدعك وتوقعك في بحور من الشكّ والرّيبة، ولكنّها لا تستطيع أن تأتي من الآثام ما ينسب إليها أو من الظّلم والعسف ما يقدر على إتيانه الرّجل، يمكنها أن تتلاعب بالعواطف لأنّها أمّ العواطف، وتستطيع أن تكون ملاك الرحمة إن أرادت أيضًا .
وإرادتها دائما متفوقة على الجو المحيط بها. وقد تستطيع أن تسبغ النّعيم على ذويها أو تحوّل حياتهم إلى جحيم، وهذه القدرة تستمدها دائمًا من روح الرجل ومعاملته، فقد تكون مخلوقًا وديعًا متواضعًا مستسلما لنوائب القدر، ولكن إذا ما استفزّها عامل من العوامل، أو إذا ثارت عواطفها وتملّكها الغضب تحولت هذه الوداعة إلى شراسة، وتحوّل الهدوء إلى هياج والاستسلام إلى عنت وانتقام. هي أشبه بقط أليف إذا ما دلّلتها وعطفت عليها وعاملتها برفق وحكمتها بطريق العاطفة لا بطريق القوّة ـ وهي أسد كاسر إذا ما تسلّطت عليها بنفوذك وسيرتها بطريق الإجبار والسّلطة ـ هي لن تقوم بعمل متقن إذا لم تترك لها حريّة العمل وحرية اختياره ـ ولن تقوم بواجب أجبرتها على تأديته ـ وإن أدّته فإنّما تؤديه غاضبة ساخطة، هي دائما في حاجة لتشجيع وتقدير، وما ذلك بالأمر العسير فرب كلمة شكر أو نظرة تقدير قصيرة تعيد إليها ما فقدته من نشاط ومثابرة . وإنك لو تساءلت لماذا تحتاج المرأة إلى هذا التّشجيع وهذا التّقدير لأجبتك لأن الرجل قويّ معتز بقوته، يعمل وهو واثق بجدارته بعكس المرأة التي أثر ضعفها الجسماني على نفسيتها فأضعفها، وكان من نتيجة هذا الضعف أن شعرت بعجزها وعدم جدارتها. لذلك هي محتاجة أبدا إلى من يبث فيها الشّجاعة لتعطي نفسها حقها، ولو أنّها كانت لا تحسّ ذلك الضّعف لما طالبته بحقوقها ولما سعت للتّمتّع بحريّتها واستقلالها تحقيقا للمساواة الاجتماعية بينها وبين الرّجل، سواء في الحقوق أو في الواجبات[21]“. من الواضح، إذن، نحن أمام طبيعتين متناقضتين طبيعة الرّجل وطبيعة المرأة، وهذا ناتج عن حكمة الهيّة، لهما دوران متناقضان، ومن ثم تعليمًا خاصّا بكل منهما:
“إذا كانت تربية الابن تختلف عن تربية البنت باختلاف الدور الطبيعي الذي خصه الله لكل منهما في الحياة، فإنه لا يوجد اختلاف من حيث بذل المجهودات على الأمّهات لأنّ تربية البنت لا تقلّ أهميّة عن تربية الابن بل تتعدّاها خطورة لأنّ البنت هي الأم و الأم كلّ شيء [22]“.
إنّ توحيدة بن الشيخ تؤسس لثقافة الاختلاط بين الجنسين، وتعتبر أن الابن والبنت يجب أن ينهلا من التربية نفسها، وفي
ذلك تختلف عن بشيرة بن مراد التي رفضت كلّ ثقافة تؤسّس للاختلاط بين الجنسين أو حتى الخروج من البيت: “إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرّر أن حياة المرأة منزلها قبل كلّ شيء. وجدها تطهي الطعام وتعمل بالرّحى وترقّع الثوب وتكنس البيت و تقوم بجميع الأعمال المنزلية، فقرّها على ذلك . ولم يقل لها عليه السلام إنّ هذا ليس من شأنك وأنّ حياتك يلزم أن تكون في الأسواق وأن تقطعها جيئة وذهابا في الطرقات، وأن تجالسي الأجانب في المنتديات[23]“.
توجه بشيرة بن مراد في الشاهد المتقدّم هو نفسُه توجه الشّيخ محمد الصالح بن مراد في” الحداد على امرأة الحداد”، فبشيرة هي حقا “بنت أبيها” . إنّ صورة المرأة المثلى بالنسبة إلى بشيرة بن مراد، هي امرأة القرن السابع الميلادي العربية البدوية، أي جدّة التّونسية المعاصرة، وذلك عكس الحكيمة توحيدة بن الشيخ التي ترى أن المرأة المثلى هي المرأة المتعلمة والتي تنهل من العلوم المعاصرة، وترى في المرأة الغربية (مدام بورناي زوجة الدّكتور بورناي) مثالاً يحتذى بعد أن تعرفت عليهما في تونس .
كانت توحيدة بن الشّيخ ضمن طلبة شمال أفريقيا حيث انضمت إلى جمعية الطلبة المسلمين الشمال أفريقيين، وقد أولت بشيرة بن مراد عناية فائقة لهذه الجمعية وحملتها، تماما مثل الكولوغلي الحبيب ثامر على الطلبة المتزوجين من فرنسيّات . فطالب الحبيب ثامر، الذي ولد في العام نفسه الذي ولدت فيه توحيدة أي سنة 1909م وتوفي سنة 1949 م بضرورة محاربة الزّواج من أجنبيات مازجَا بين الأخلاق والسّياسة:
“هناك خطر آخر أعظم وأدهى يجب الاهتمام به جرّته هذه التربية العقيمة، وهو أنّا نرى بعض الشبان التونسيّين التجأوا إلى التزوج بالغربيّات وذلك لأنهم لا يجدون بتونس فتيات متعلّمات تليق بهم، ويمكن أن تشاركهم في أفكارهم وإحساسهم ما يجدونه عند الغربيات، و هم عالمون بما تقدمه أيديهم، عالمون أنهم إذا اتبعوا شهواتهم وهوى نفسهم حتى ارتاحوا في الحياة الدنيا، جنوا على بلادهم جناية لا مزيد عليها، وذلك أنه لا يمكن لهم أن يخرّجوا أطفالا يحملون قوميّة والدهم فيخدمون بلدهم كما يجب [24]” .
- المصادر والمراجع بالعربية
الكتب
- بوذينة ( محمد) : مراثي المشاهير ، تونس ، منشورات محمد بوذينة، 1994م .
- الدو القايد ( السيدة): منارات على أرض قرطاج بشيرة بن مراد و نساء رائدات (1900-1956)، صفاقس، مطبعة التسفير الفني 2006م.
- الدو القايد ( السيدة): منارات الفجر، صفاقس، مطبعة التسفير الفني، 2006م.
- عزيز ( عبد الكريم) : نضال شعب أبي( تونس 1881 – 1956)، تونس، مركز النشر الجامعي 2001 م.
- القزدغلي ( الحبيب ) في عمل جماعي: نساء وذاكرة تونسيّات في الحياة العامة (1920-1960)، تونس، ميديا كوم، 1993م .
- المؤدب ( جليلة) : ثلاثة رموز فكرية سياسية مغربية : الحبيب ثامر(ت1949 ) وعلي الحمامي(ت1949 ) ومحمد أحمد بن عبّود ( 1949): شهادة ماجستير في الحضارة المعاصرة، إشراف الأستاذ محمد الناصر النفزاوي، تونس، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية، 2006م .
الدوريات
- بن الخوجة ( سارة) : حفلة تكريم، شمس الإسلام، تونس، مط النهضة، مجلد 1،ج4،1937.
- بن الشيخ ( توحيدة) : جواب الحكيمة المكرّمة السيّدة توحيد بن الشيخ، شمس الإسلام ،
تونس ،مط النهضة، مج 1، ج4،1937.
- بن مراد ( بشيرة ) : حفلة تكريم الحكيمة التونسية توحيدة بن الشيخ ، شمس الإسلام ، تونس ، مط النهضة ، مج 1 ، ج4، 1937م .
- بن مراد ( بشيرة ) : جريدة الحرية 26 سبتمبر1948 ، ع25 بعنوان ” المرأة و تربية الأطفال ” .
- [1]مجلة شمس الإسلام ، مط النهضة ، م1، ج2 ، 1937م.
- بن مراد( نجيبة): حفلة تكريم الحكيمة، شمس الإسلام ، تونس ، مط النهضة ، مج1، ج4،1937م.
- بن موسى ( بختة) :الحرية، 27 جوان 1948م.
- بن يوسف ( عادل ): توحيدة بن الشيخ مسيرة أول طبيبة تونسية، تونس، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ومؤسسة كونراد أديناور، ماي 2007م .
- التريكي ( سعاد): المرأة بين القانون والواقع، الطريق الجديد، 12 أوت 1982م .
- التميمي ( عبد الجليل): دور المرأة المغاربية منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات مؤسسة كونراد أديناور، ماي 2007م.
- كربول ( سميرة ) : صورة المرأة المسلمة بتونس من خلال الكتابات الأوروبية أثناء الفترة الاستعمارية، روافد، تونس، المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، العدد الثالث، 1997م .
الدوريات بالفرنسية:
* La Doctore vous parle, Leila, Numero3, mars1937.
[1] محمد الناصر باي، هو محمد الناصر بن محمد بن حسين بن محمود بن محمد بن حسين بن علي ولد بالمرسى في 14 جويلية 1855، و تأدّب بالعربية ثمّ بالفرنسيّة. وسمّي وليّا للعهد سنة 1902م، ووليا للحكم تحت الحماية الفرنسية في11 ماي1906م، واستمرّ في الحكم 16 عاما، أصدر مجلة العقود والالتزامات، وتوفي في 19 جويلية 1922م. (انظر: محمد بوذينة، مراثي المشاهير، تونس، منشورات محمد بوذينة 1994، ص. 245).
[2] عبد الجليل التميمي، دور المرأة المغاربية في حركة التحرير وبناء الدولة الوطنية، تونس، منشورات مؤسسة التّميمي للبحث العلمي والمعلومات ومؤسسة كونراد أديناور، ماي 2007م، ص. 237.
[3] حبيب القزدغلى في عمل جماعي، نساء وذاكرة تونسيات في الحياة العامة( 1920-1960)، تونس، ميديا كوم ،1993 ، ص. 24.
[4] سميرة كربول، صورة المرأة المسلمة بتونس من خلال الكتابات الأوروبية أثناء الفترة الاستعمارية، روافد، تونس، المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، العدد الثالث،1997، ص. 11.
[5] عبد الجليل التميمي، لقاء مع توحيدة بن الشيخ، مرجع سبق ذكره، ص. 238،239.
[6] عادل بن يوسف، توحيدة بن الشيخ مسيرة أول طبيبة تونسية، تونس، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ومؤسسة كونراد أديناور، ماي 2007 ، ص. 74.
- [7] La Doctore vous parle,leila,Numéro 3,mars 1937 P3.
[8] السيدة الدو القايد، منارات على أرض قرطاج: بشيرة بن مراد و نساء رائدات (1900-1956)،صفاقس ، مطبعة التسفير الفني 2006، ص. 73.
[9] عبد الجليل التميمي، لقاء مع الحكيمة توحيدة بالشيخ، مرجع سبق ذكره، ص. 244.
[10] سعاد التريكي ، الطريق الجديد،21 أوت 1982م.
[11] سعاد التريكي، الطريق الجديد، مرجع سبق ذكره .
[12] عبد الكريم عزيّز، نضال شعب أبيّ (تونس1881-1956)،تونس، مركز النشر الجامعي،2001، ص.409.
[13] سارة بن الخوجة، حفلة تكريم، شمس الإسلام، تونس، مط.النهضة،مجلد1 ،ج4 ،1937 ص. 235.
[14] نجيبة بن مراد، حفلة تكريم الحكيمة، شمس الإسلام، مرجع سبق ذكره صص. 232-233.
[15] نجيبة بن مراد، حفلة تكريم الحكيمة، شمس الإسلام، مرجع سبق ذكره صص. 232-233.
[16] بشيرة بن مراد، حفلة تكريم الحكيمة التونسية توحيدة بن الشيخ…مرجع سبق ذكره، ص. 174.
[17] بشيرة بن مراد،تعاون المرأة و الرجل….مرجع سبق ذكره ص31
[18] توحيدة بن الشيخ، جواب الحكيمة المكرمة السيدة توحيدة بن الشيخ…مرجع سبق ذكره، ص. 174.
[19] السيدة الدو القايد، منارات الفجر، صفاقس، مطبعة التسفير الفني،2006، ص. 292.
[20] السيدة الدو القايد: منارات الفجر تونسيات على درب النضال (1900-1956م) ، مرجع سبق ذكره، ص. 78 .
[21] بختة بن موسى، الحرية، 27 جوان 1948 م.
[22] بشيرة بن مراد، جريدة الحرية 26 سبتمبر1948 م، ع 25 بعنوان “المرأة و تربية الأطفال” .
[23] مجلة شمس الإسلام، مط النهضة، م1، ج2، 1937، ص. 104 .
[24] جليلة المؤدب، ثلاثة رموز فكرية سياسية مغربية : الحبيب ثامر(ت1949 ) وعلي الحمامي(ت1949 ) ومحمد أحمد بن عبّود ( 1949) : شهادة ماجستير في الحضارة المعاصرة ، إشراف الأستاذ محمد الناصر النفزاوي ، تونس، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية، 2006 ، ص. 31 .
أكدت الكاتبة في المقدمة على مذهب الوالي العثماني محمد الناصر باي وقالت إنه “حنفي المذهب” بحث في طيات المقالة عن أي علاقة مذهب الباي بمسيرة الطبيبة توحيدة بالشيخ فلم أجد أي أثر لأي علاقة. فواصلت القراءة قليلاً فوجدت المقالة مشحونة فكر نسوي دخيل على حضارتنا العربية الإسلامية معادٍ للرجل يشخن النساء بروح متمردة مدمرة للأسرة نواة المجتمع وعماد الدول والحضارات….
سيدي لقد قمت بوضع الشخصية في إطارها التاريخي والمذهبي، هذا أولا، ثانيا هذه المرأة هي أول طبيبة شجعتها امراة والفكر التحرري ليس معاديًا للثقافة العربية الإسلامية .أرجو تحديد المصطلحات والمفاهيم وعدم إطلاقها دون حدود . والإسلام دين اعتدال و انفتاح على الآخر و دين تحرّر فكري .