بقلـم: محمد الغــزي*
من العسير على المرء، وهو يسترجع صورة الناقد التونسي توفيق بكار (1927 – 2017)، أن يتجرّد من مشاعره وذكرياته ويكتب عن الرجل بحياد وموضوعية؛ فهذا الناقد يمثّل جزءاً من ذاكرتنا الأدبية وبعضاً من وجداننا الثقافي وعنصراً مكيناً من عالمنا الروحي والأدبي. في كل ما نكتب ثمّة شيء من ثقافته وذائقته وأسلوبه، فكيف لنا، بعد هذا، أن ننفصل عن أحاسيسنا وذاكرتنا حين نكتب عنه؟
عرفت الرجل في بداية السبعينات عندما التحقت بـ “كلية الآداب 9 إبريل/نيسان” في تونس العاصمة. ومنذ المحاضرات الأولى، بدا لي الأستاذ مختلفاً في لغته وأساليب تدريسه عن بقية الأساتذة. وإذا كان الطلاب قد اهتمّوا بمضمون محاضراته التي لم تكن مجموعةً من المعلومات بقدر ما كانت فسحة تأمُّل واستقراء، فقد اهتممتُ، على وجه الخصوص، بطريقة تقديمه تلك المحاضرات… بلغته الهامسة وعفويتة وتجنُّبه المصطلحات النقدية الرائجة… بطرائقه في تحويل الدرس النقدي إلى درس في تشكيل الذائقة وتربية الحسّ الجمالي؛ فالأدب عند بكار لم يكن بضاعة مزجاة، على حدّ تعبير أبي تمّام، وإنّما كان، في المقام الأوّل، أسلوب حياة وطريقة وجود.
لا شكّ في أنّ للرجل انتماءه الأيديولوجي. لكنّ هذا الانتماء لم يكن يوجّه درسه أو يلوّن خياراته الأدبية… كان حدسه الفنّي هو الضوء الذي يهتدي به في اختيار النصّ والاحتفاء بكاتبه. لهذا، كانت علاقته بالأدب أقرب ما تكون إلى علاقة صوفية؛ حيث للعشق دورٌ مهمّ في الاستسلام إلى النصّ والإصغاء إلى نداءاته السرية.
إذا كان لنا أن نبحث عن خيط ينتظم كلّ اختياراته الأدبيّة فهو انطواؤها على نبرة رفض وتمرّد. هذه النبرة ليست بالضرورة في مقول القول، أعني المضامين والدلالات، وإنّما قد تكون في طرائق القول، أي في الأساليب والبناء؛ فالأدب، عنده، هو الخروج المستمرّ من الربوع الآهلة والدخول في الربوع الخالية، حيث تتعاوى الذئاب وتصفّر الرياح.
لم يكن درسه عن الكاتب التونسي علي الدوعاجي، في ذلك الوقت، مجرّد محاضرات أكاديمية تسلّط الضوء على أحد الكتّاب الكبار في تاريخ الأدب التونسيّ، وإنّما كان توطئة لمشروع كبير كان الرجل يسعى إلى إنجازه بكلّ حماسة وقوّة؛ وهو: فتح أسوار الجامعة التونسية على الإبداع التونسي.
بسببٍ من هذا، كان للدرس ظاهر وباطن؛ الظاهر هو التعرّف إلى تجربة الدوعاجي السردية، أمّا الباطن فهو الاحتفاء بالأدب التونسي من خلال نماذجه الكبرى. الظاهر هو تحليل أعمال الدوعاجي، أمّا الباطن فهو استدراجنا، نحن الطلاب، إلى الاهتمام بالأدب التونسي بوصفه وجهاً من وجوه الأدب العربي فيه فرادة وخصوصية.
وقد تمكّن بكار، بعد طول معاناة، من إدراج هذا الأدب ضمن برامج الجامعة. لم يكتف بتسليط الضوء على أدب الدوعاجي بل لفت انتباه الدارسين إلى تجربة محمود المسعدي الإبداعية؛ فقد عمل على نشر أعمال هذا الروائي، وكتب الكثير من الدراسات التي انعطفت على مؤلّفاته بالدرس والتحليل، وربّما عاد جانب من شهرة المسعدي إلى احتفاء بكار به؛ فبفضل الأخير بات كاتب مسرحيّة “السدّ” ورواية “حدّث أبو هريرة قال” من الشخصيات الأدبية التونسية القليلة التي حظيت في الجامعة التونسية باهتمام وعناية كبيرين، إذ استقطبت دروس بكّار عن الرجل عدداً كبيراً من الطلاب، ودفعتهم إلى اتخاذه محوراً لرسائلهم الجامعية.
لكن بكار، على حماسته للأدب التونسي، لم يتنكّب عن دراسة الأدب العربي الحديث والانعطاف على نماذجه الكبرى بالنظر والتأمّل؛ بل كان من الأوائل الذين فتحوا أبواب الجامعة على الأدب العربي الحديث، الذي لم يحظ في تلك المرحلة بإجماع النقّاد والأدباء.
ما زلت أتذكّر، بصفاء كبير، محاضرات الأستاذ عن محمود درويش في بداية الثمانينات. وكان درويش في تلك المرحلة أيقونة الشعر العربي. ومن قصائد الشاعر، انطلق يتحدّث عن تجربة الرجل. من شتات صوره ورموزه واستعاراته، من تنوّع إيقاعاته وترجيع قوافيه… كان، وهو يعابث سيجارته المطفأة، يحاور قصائده، يفكّك تراكيبها، ويحفر ذاكرة كلماتها، ويسائلها مساءلة العاشق يريد أن يدرك أسرار معشوقته.
وما فتئ توفيق بكار يذكّر بأنّ منهجه يقوم على محاورة النصوص، على عقد وشائج قربى معها، فليست القراءة إكراهاً للنصّ حتى يقول ما نريد أن نقول، وإنّما هي استدراج لطيف له حتى يُفصح عن خبيء أسراره ومضمر معانيه، فالقراءة صنيعة النص وصانعته في آن، تبتكره فيما يبتكرها.
لم تكن قراءة بكّار للمناهج النقدية الحديثة قراءة محايدة، بل كانت ناقدة، متسائلة، تستبعد وتستبقي، تؤيّد وترفض، لهذا أصرّ، رغم حماسته للمناهج المغلقة التي تفصل النصّ عن خارجه، على الاستدراك عليها، فهو لا يقصي، في تحليله، الخارج والتاريخ والإنسان وكل ما هو مرجعي وواقعي، لأنّ القراءة، عنده، تفكيك وتركيب، بنية ودلالة، قول وطريقة قول.
يصف الناقد حسين الواد منهج بكار في تحليل النصوصٍ بالقول: “إنّنا نجدُ أنفسَنا في صلبِ القضايا المعاصرةِ التي يشقى البحثُ، عالمياً، بنقاشِها شقاءَ المُمتع. فهو لم يصُبّ على النصوصِ معارفَ مقتبسةً وإنما حاورَ بها الرصيدَ المعرفيَّ بالخطابِ الشعري وهو يستجيبُ للتنظير ويندُّ عنه فيدخل معه في جدلٍ خلاّق”.
وقد عمل بكار على نشر هذه القراءات التي تناولت بالنظر والتأويل نصوصاً شعرية وسرديّة تنتمي إلى أزمنة أدبية مختلفة فأصبحت بمثابة مراجع لجيل كامل من النقاد والأدباء استرفد منهجها ولغتها ومصطلحها.
ومن أهمّ هذه القراءات نذكر: “شعريات عربية”، وقد صدرت في جزأين تناول فيهما مجموعة من النصوص الشعرية القديمة والحديثة، باحثاً عن الصلات المنعقدة، داخلها، بين المعنى والمغنى (أي بين المعنى والإيقاع)، وبين النص وذاكرة الأدب، بين المضمون وشكل المضمون.
وأيضاً “المقدّمات”، وتحتوي مجموعة من الدراسات واكب فيها أعمالاً من أدبنا العربي الحديث تنتمي إلى أجناس أدبيّة شتى: أقاصيص وأشعار وروايات من مختلف البلاد العربية؛ كتونس وفلسطين والسودان.
ونذكر أيضاً “قصصيات عربية”، وتحتوي قراءات لمجموعة من النصوص السردية القديمة والحديثة التي ألّفها كبار الكتاب العرب مثل ابن المقفّع والجاحظ والمسعدي، وهي قراءات تجمع بين المنهج الأسلوبي والملاحظات السيميائية الفطنة.
* كاتب وشاعر من تونس
المصــدر: العربي الجديد، 4 ماي 2019م