د. محمد التـــومي
ملخّص:
مثل الوزير خير الدين التونسي (1810-1890م)، محطة مهمة في تاريخ تطور خطاب التجديد والإصلاح في المجال العربي الحديث، وقد شرح رؤيته الإصلاحية في كتابه الشهير (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الصادر سنة 1868م، ويعد هذا الكتاب أحد أهم المدونات الإصلاحية في تاريخ تطور الفكر العربي والإسلامي الحديث وهو المشروع الذي اعتمده عبد العزيز الثعالبي كمقوم من مقومات الحزب الحر الدستوري التونسي .
مقدمة:
يسلط هذا المقال الضوء على مشروع خير الدين باشا التونسي الذي ضمّنه في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك وفيه بيان لأسباب نهوض الأمة الإسلامية وتطورها وذلك بمحاولة فهم المجتمعات المعاصرة و دراستها وبيان سبل تطورها ويعد هذا الكتاب صورة عن تطور الفكر الإصلاحي في تونس في أواسط القرن 19 م ، في مرحلة مهمة من تاريخ تونس تلت ثورة علي بن غذاهم التي هزن أركان الدولة التونسية حينها.
1 / نذر الأزمة السياسية وتعطل إصلاحات أحمد باي
تميّز الواقع السياسي في زمن خير الدين بالارتباك وارتجال الإصلاحات مثلما حصل في عهد أحمد باي مع نشوب ثورة علي بن غذاهم التي اجتاحت الإيالة في سنتي 1863 و 1864 بسبب إثقال كاهل المواطن بالضرائب خاصة في عهد المشير أحمد باشا باي ، العلاقة المتوترة بين القبائل والعشائر في المناطق الداخلية وانقسام البلاد إلى باشية وحسينية .من جهة ثانية سجل الملاحظون كثرة الوفود من الجاليات الأوروبية الطليان والفرنسيين والمالطيين واليهود إذ بلغ التعداد العام لسكان تونس في بداية القرن التاسع عشر مليون ومائة ألف ساكن منهم 600 ألف من الجالية .
وقد حصدت مجاعة 1866 1868 خمس السكان إضافة إلى وباء 1886 الذي أتى على عدد كبير من السكان .. وأمام ارتفاع عدد الجالية تمكنت الدول الأوروبية من فرض عهد الأمان خاصة بعد إعدام السلطات التونسية لمواطن يهودي وقد كان لخير الدين الدور الأكبر في صياغته وإقراره بعد تلكؤ طويل من السلطات التونسية .ومن الجدير القول إن المشير أحمد باي الذي كان له الفضل في الكثير من الإصلاحات في صلب مؤسسات الدولة أفرغ الخزينة على إصلاح مؤسسة العسكر ، حتى بلغ به الأمر إلى بيع حلي زوجته وحلي أخته زوجة مصطفى خزندار في فرنسا (2 مليون فرنك) . في الوقت الذي سرق فيه محمود بن عياد حافظ الخزينة ومدير البنك الوطني 1847 ..60 مليون فرنك وحينما استقر به المقام في فرنسا وتمتع بالجنسية الفرنسية طالب الدولة التونسية بمستحقاته التي خلفها هناك وقدرها ب 50 ألف فرنك بدعم من نابليون الثالث وعين خير الدين التونسي للدفاع عن الإيالة . وقد تعاون اليهودي نسيم شمامة محاسب محمود بن عياد مع الدولة التونسية فقدم للخزندار مصطفى كل الفواتير التي تدين محمود بن عياد ولكن الأخير ماطل المحكمة في تقديم الأدلة ورشا شمامة حتى بدا ترفه وغادر البلاد هو الآخر إلى إيطاليا وعندما مات ترك ثروة تقدر ب 73 مليون فرنك ولم يكن له ورثة فتفجرت قضية مشابهة لقضية محمود عياد لم تجن منها تونس شيئا .
كل ذلك كان على مرأى خير الدين الذي كان له الدور الفاعل في إزالة رأس الأفعى مصطفى خزندار حيث قدرت ثروته بعد ستّ وثلاثين سنة من الحكم في وظيفة الصدر الأعظم 183 مليون فرنك .. مع العلم أن القرض الذي طلبته تونس من فرنسا لإصلاح اقتصادها يقدر ب 60 مليون فرنك . ومن ضمن إصلاحات أحمد باشا باي ( 1837 – 1855) إصلاح الإدارة وبث روح التسامح مع غير المسلمين الذي انتهى بإقرار قانون عهد الأمان 1857 في عهد المشير محمد باي .إضافة إلى إلغاء الرق 1846 وبسببه سيلغى طريق التجارة الرابط مع إفريقيا
إنشاء قصر المحمدية بين سنتي 1843 و 1846 الذي كان يسمى فرساي تونس . ولكن بقي تعامل أحمد باشا باي مع أنصار التجديد والإصلاح باردا في ما يتعلق بالتنظيمات وتطبيق أصولها في تونس رغم التعليمات التي كانت تصل من الدولة العثمانية . ولكن الملاحظ هو تفلت تونس من الدولة العلية وربط الصلة أكثر مع فرنسا خاصة بعد 1831 خاصة بعد أن أنهت الدولة العثمانية وجود عائلة القارملي في طرابلس على رأس الحكم .
2 / الحرية والتنظيمات السياسية أساس نظرية التحديث عند خير الدين
بعد تدخل مصطفى بن إسماعيل لإقناع الباي بضرورة عزل الصدر الأعظم مصطفى خزندار بعد حكم دام مع ثلاثة بايات امتد على 36سنة استجاب الباي على مضض لعزله عن الحكم بعد أن تأكد أن البلاد على حافة الإفلاس، وعين مكانه سنة 1873 خير الدين باشا الذي بدا بتشخيص الحالة السياسية للبلاد التونسية من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه، ويتمحور مشروعه الإصلاحي في مسألتين: الحرية السياسية والتنظيمات التي تمثل رافعة للحكم .
أ / الحرية :
يبدأ خير الدين مساره الإصلاحي بـاعتبار “الحرية منشأ التمدن بالممالك الأورباوية” . ويذهب إلى القول بأن ثمة شيئين مرتبطين بالحرية الأول والأهم هو نقل نظم الحرية الأوربية والترغيبه فيها. والثاني هو وسيلة محاولة بيان وإيضاح أن كل هذه النظم وما يتصل بها من مفاهيم، قد وجدت في الإسلام، ولها مقابل في الشريعة، ولكنها لم تطبق إلا نادرا ولم تحترم إلا لماما وبذلك شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر الميلاديان نمو نظم الحكم ونشوء الدولة الوطنية الحديثة .ولقد تبين أن للأوربيين نوعين من الحرية:
1 / الحرية الشخصية:
وهي “إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله،… ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه … وبالجملة فالقوانين تقيد الرعاة كما تقيد الرعية”>
2 / الحرية السياسية:
وهي التي من خلالها يتدخل الرعايا في الأمور السياسة للوصول إلى أفضل حال للمملكة ويستدل بقول الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب رضي الله عنه “من رأى منكم اعوجاجا فليقومه”، ويعني بذلك انحرافه في تسيير الأمة. ثم يدخل خير الدين في تفاصيل تتعلق بتطبيق الحرية السياسية فيتحدث عن مجلس نواب العامة،وما يقابلها : أهل الحل والعقد وإن لم يكونوا منتخبين من الأهالي” وهكذا يحرص خير الدين على أن النظم الدستورية الأوربية تحتوي على ما هو معروف لدى فقهاء ، ويضيف إلى ذلك التذكير بضرورة اعتماد آراء أهل المعرفة وأهل الحل والعقد في شؤون الدولة المقام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر>
3 / حرية الصحافة :
الحرية عند خير الدين لم تقتصر على مظهريها الشخصي والنيابي، بل هناك مظهر ثالث اهتم به خير الدين في تحليله فقال “وبقي وراء ذلك للعامة شيء آخر يسمى حرية المطبعة، وهو أن لا يمنع أحد منهم أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب والجرائد التي تطلع عليها العامة ” ولقد احتوى قانون فرنسا على أن “لا يمنع إنسان في فرنسا أن يُظهر رأيه وأن يكتبه بشرط ألاّ يضّر به أحدا”>
وينتج عن الحرية كما يراها خير الدين التقدم في المعارف والصناعة، خاصة في مجال . ” الفلاحة والتجارة والأعمال البدنية والفكرية” ولم يلاحظ خير الدين الاختلاف بين دول أوروبا من ناحية منحها رعاياها حرية القول والصحافة . وهو لا يعترض على الحرية المطلقة في بعض المجالات مثلما حدث لسويسرا الدولة الصغيرة التي لم تكن معروفة في المحافل الدولية، وتمكنت أن تعرف الحرية المطلقة لرعاياها بنفسها ذلك من خلال إطلاق يد الحاكم لشعبه في ممارسته الحياتية حتى اكتسبت شهرة عالمية في غضون سنوات بالرغم من فقر الأرض من المواد الأولية إلا أنها تمكنت من جلب المستثمرين الأجانب”
ب / التنظيمات السياسية
عرف خير الدين التونسي بنظرية التنظيمات أو التنظيمات الدنيوية واشتهر بها، وهي النظرية التي كشف عنها، وشرحها بتوسع واهتمام في مقدمة الكتاب، التي حمل الباب الأول فيها عنوان (التنظيمات). واستندت نظرية التنظيمات عند خير الدين، على خلفية البحث عن أسباب التقدم وأسباب التأخر في الأمة الإسلامية، ولا يتيسر التقدم في نظره ، من دون إجراء تنظيمات سياسية تتأسس على دعامتي العدل والحرية، اللذين هما حسب قوله، أصلان في شريعتنا، كما أنهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك. وقد أراد من نظرية التنظيمات، ربط التقدم بإصلاح النظام السياسي، وإقامته على دعامتي العدل والحرية، وهذا لا يتحقق في تقديره إلا من خلال تبني نظرية التنظيمات المجربة والمشاهدة في الأمم الأوروبية. ويعتبر خير الدين أن هذه الأمم الأوروبية، إنما تقدمت في العلوم والصناعات بسبب هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، ومن هنا دعوته وتأكيده على الانفتاح والاقتباس من التجربة الأوروبية، وأراد من كتابه أن يكون منهجا يرسم فيه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك الأوروبية، التي نهضت وتقدمت بفضل هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية. وبهذا الدور يكون خير الدين، قد جدد مرة أخرى علاقة الفكر العربي والإسلامي الحديث بقضايا التقدم والتمدن والعمران، وفتح عليه فرص التواصل والانفتاح على العلوم والمعارف والتجارب الحديثة، وبالذات التجارب الأوروبية التي عرفها وعاينها وعايشها. كما نبه خير الدين الفكر العربي والإسلامي الحديث، بضرورة الالتفات إلى الإصلاح السياسي المستند على فكرة التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية. إضافة إلى دعوته إلى الأخذ ببعض الأمور السياسية من أوروبا التي حققت الرقي الحضاري والمكانة السياسية منها:
المجالس (الدواوين):
وقد عمل الأوروبيون على تفادي إطلاق الحكم بيد الملوك ورجال دولهم، لأنه ثبت بتجارب الأمم السابقة، كما يؤكد خير الدين، أن خرابها كان بسبب “التصرف في سياسة المملكة دون قيد”، فأسسوا بذلك مجالس ودواوين يكون فيها أعضاء من أهل الحل والعقد العارفين بالأمور السياسية، ووظيفتهم المشاركة في تسيير أمور الدولة ومنها تعيين أصول تصرفات الدولة جمهورية أو وراثية، كتنفيذ القوانين الحكيمة وإدارة السياسة الداخلية والخارجية كعمل الحرب وعقد شروط الصلح والتجارة، وتعيين الوظائف وتنصيب الموظفين من الوزراء وغيرهم ” فالمادة الأولى من القانون الفرنساوي تنص على:” أن سائر الفرنساوية مستوون أمام الشريعة”، والمادة الثالثة تنص على : “أن كل واحد منهم متأهل. لأخذ أي منصب كان، وأي رتبة كانت“
الـــوزراء:
الوزراء يكون عملهم ضمن مجلس الوكلاء مباشرة وبذلك فإن أمور الدولة يسيرها صاحبها (الملك) ويتوقف الإنجاز على عمل الوزراء، وإن الملك لا يقدم على فعل أمر إلا بعد استشارة وزرائه، وقد أوضح خير الدين إدارة الدول الأوروبية السياسية التي زارها ويخص الذكر هنا فرنسا، حيث نظام الوزارة كان يسيره عشرة وزراء.
3/ مقاصد المشروع الإصلاحي لخير الدين التونسي
كان خير الدين يحصر كتابه في مقاصد سياسية أهمها:
1 / دعوة العلماء ورجالات الدولة المسلمين إلى الأخذ بأسباب التقدم والرقي لتحقيق رفاه المجتمع الإسلامي .
2 / دعوة العلماء المسلمين إلى التخلي عن الجمود والانفتاح على الفكر الأوروبي ما لم يتعارض وثوابت الشريعة والأخذ بها .
3 / تقريب أوروبا من رجال السياسة والدولة والعمل على إزالة الحواجز بينهما وبين الأوساط السياسة العثمانية ، بدا ذلك من خلال ترجمة المقدمة إلى عدة لغات منها الفرنسية والانجليزية والتركية .
4 / كان يهدف إلى بيان أن الخلل ليس في الإسلام الذي استطاع بناء الدولة لسنين طوال . كان للأوروبيين حينها نموذجا يحتذى به وأوضح خير الدين بأن تعاليم الدين الإسلامي ومبادئ الشريعة الإسلامية واضحة وكافية لإقامة نظام إداري كامل ولكن إهمال هذه المبادئ وترك العمل بها هو الذي أدى إلى تدهور الأمة وتخلفها عن ركب التقدم وشيوع الفوضى .. ولكنه أيضا ينتقد رجال الدين المتزمتين والمتحجرين في أفكارهم وسلوكهم
5 / يبدو خير الدين محيطا بدينه متجذرا في الفكر الإسلامي ، عارفا بما كتب أسلافه، ومن هؤلاء الذين يقتبس من أفكارهم ويذكر أسماءهم : ابن خلدون والغزالي والماوردي وابن عربي وابن عابدين والتفتزاني والقرافي …الخ ولكنه أيضا متجذر في واقعه إذ يقدم نفسه في المقدمة الفرنسية بكونه درس في أوروبا العلوم الرياضية والطبيعية وعلم القانون والتاريخ …” كما كانت له مراسلات مع أحمد بن أبي الضياف وإسماعيل صاحب الطابع كما بدا مطلعا على كتاب محمود قابادو محيطا بمقدمة ابن خلدون .
6 / انتقد تدخل أوروبا في شؤون الدولة العثمانية والعالم الإسلامي دون أن يؤثر ذلك على رأيه في إتباع السياسة الإصلاحية .. وقد أطنب في المقدمة في الدفاع عن المؤسسات الأوروبية المراد اقتباسها .
7 / يعتبر هذا الكتاب جمعا لكافة التجارب والأبحاث الشخصية للكاتب فضلا عن إيراده لأفكاره وآرائه وانطباعاته التي صرّح بها من خلال زياراته المتعددة إلى أوروبا خاصة.
خاتـــمة
لقد مثل مشروع خير الدين التونسي منعرجا حاسما للدولة التونسية نحو تحديث مؤسساتها وترجمة المفاهيم الأوروباوية من قبل رجل خبر الإدارة والوزارة وسائر مؤسسات الدولة التونسية وهو ما ساعده على تشخيص الأزمة المستشرية حينها وتقديم سبل العلاج، ولأن مشروعه منبثق من صميم الأزمة الوطنية حينها كان خير الدين سلفا في الإصلاح السياسي الذي حاوله كل الذين أتوا من بعده، ونخصّ تجبة عبد العزيز الثعالبي التي أقرّت بأهمية تجربة خير الدين وبنت عليها رؤيتها للحكم والسياسة كما قُدمت في مشروع الحزب الحر الدستوري التونسي في صبغته القديمة، كما تمثل تجربة خير الدين مناط الفعل السياسي في حزب حركة النهضة ومدار تصوره للحرية والانتقال الديمقراطي، وهو ما سنسعى إلى بيانه في مقال يلحقه .