بقلم: الأمير شكيب أرسلان
لا أدعي التعرض لجميع ما جرى ويجري في تونس من مظالم الفرنسيّين، واعتدائهم على حقوق البشر وإرهاقهم الأهالي هناك عسفًا يفوق جميع ما رواه الرّاوون، ورآه الرّاؤون، فإنّ ذلك غاية لا تدرك، وأمد لا يملك. وإنّني لأوصي من شاء أن يرتوي بعض الشّيء من معين هذا الموضوع أن يقرأ كتاب “تونس الشهيدة” الذي أخرجه بعض أدباء ذلك القطر بالفرنسيّة ولا أعلم هل له ترجمة عربية أم لا. فإن لم يكن لهذا الكتاب تعريب فمن أشدّ الأمور ضرورة أن يبادر إلى ذلك، وأن ينشر معرّبًا وتوزع منه ألوف من النّسخ على النّاطقين بالضّاد ليعلم النّاس مقدار سعة الخلف بين دعوى فرنسا في الحريّة وأعمالها في مستعمراتها …
وهذا الكتاب “تونس الشهيدة” لا يتضمن شيئا من الملاحظات والمقابلات، ولا يعلق إلا النّزر على الأوامر المحرّرة، والنّصوص الصريحة والقوانين المنشورة التي يجد فيها القارئ من فظاعة العسف وبشاعة الاعتداء على حقوق التّونسيين لمجرد امتلاء جيوب المستعمرين الفرنسيّين ما يغنيه عن تعليق الملاحظات والخوض في الاستنباط والقياس والتقبيح والإنكار. وإنّما كان غرضي من هذه المقالة حكاية نكتة من أعمال الفرنسيس بتونس يتأمل فيها الإنسان مقدار ما أمعن فيه هؤلاء الناس– ولا ينحصر ذلك في الفرنسيس وحدهم من الأوروبّيين- من احتقار الشّعوب الإسلامية.
الفرنسيس في كلّ الدّيار التّونسية بضعة عشر ألف شخص، والأهالي مليونان. فلما نشبت الحرب العامة واحتاجت فرنسا إلى الرّجال، دار رجالها وعيونهم تفيض بدموع التّماسيح يدعون المغاربة من تونسيين وجزائريين ومرّاكشيين إلى نصرة (دول الحق والعدل) اللاّئي يجادلن لأجل تحرير الشّعوب، بعكس الألمان الذين يقاتلون لوضع القوة فوق الحقّ …
وما تركوا وعدًا من الوعود الخلابة إلا بذلوه لأهل تلك الدّيار فيما لو نصروهم في تلك الحرب. وبالاختصار كان أقلّ ما وعدوا به تونس أن تصبح بإزاء فرنسا مثل أستراليا أو الكندا بإزاء انكلترا.
فلما انتهت الحرب، وكان نصيب تونس من رزاياها – مع أنّ تونس لا علاقة لها بها – 45 ألف قتيل وفقيد من أصل 90 ألف مقاتل، قام التّونسيون يطالبون بالمكافأة ويذكّرون الفرنسيس بتلك الوعود، فأسفرت تلك الوعود كلّها عن مجلس يقال له “تمثيلي” أشبه بمجلسي سورية ولبنان محدود الصلاحية، ضيق الاختصاص، مع قصر نفوذ الوطنيين فيه إلى الحد الذي لا يجعل لهم من التأثير شيئًا.
فأعضاء الفرنسيس في هذا المجلس 40 شخصًا عن 10 آلاف، وأعضاء الوطنيّين 18 شخصا عن مليونين، منهم 15 مسلمون، و3 يهود. وهم جميعا يجلسون في دائرة واحدة وباب واحد. ولكن الأعضاء الفرنسيس يجلسون في الطبقة العليا، والأعضاء الوطنيين يجلسون في الطبقة السفلى. وبين الطبقتين درج ينحدر به كتاب المجلس لتبليغ أعضاء الطبقة السفلى قرارات الطبقة العليا.
سألت العضو التونسي الذي أخبرني بهذه الغريبة المضحكة المبكية من غرائب الغطرسة الفرنسوية: كيف تتذاكرون إذا في المسائل المطروحة للبحث أمامكم وهم الأعلون وأنتم الأسفلون ولستم جالسين في طبقة واحدة.
قال لي: نحن نتذاكر بعضنا مع بعض، وهم يتذاكرون بعضهم مع بعض. وعلى كلّ حال فنحن لا نقدر أن نقدّم ولا أن نؤخر شيئا، إلاّ إذا انقسم أعضاء الفرنسيس من فوقنا فقد نرجح الميزان لفئة على فئة. أما في الأمور التي يتفقون فيها فالقرار يعتبر مسلّطا من فوق.
فأنت ترى أن الفرنسيس يأنفون حتى الجلوس مع زملائهم من المسلمين في مقعد واحد، وهم جميعًا أعضاء مجلس واحد. وهذا أشبه بحظرهم على المسلمين ركوب العربة في الجزائر مادام لها طالب فرنسي، هذا حسبما سمعته من ثقات. وأشبه بوضعهم الأجانب جميعا من الإفرنجة، حتى المالطيّين واليهود فوق المسلمين في الرّتب الاجتماعية. وعملهم بقانون يقضي بعدم إعطاء مكافئات عقاريّة للجزائري المسلم إلاّ إن تنصّر (أنظر إلى هذا، وطابق بينه وبين دعوى فرنسا أنّ حكومتها لا دينيّة). ولا تضن أن هذا منحصر في الفرنسيس وحدهم، فإنّ إيطالية أيضا في طرابلس الغرب تستقبل في الأعياد تهاني الطليان، فالآخرين من الافرنج فالمالطيين فاليهود فالمسلمين، هذا رأيته في إعلاناتهم الرئيسيّة. أمّا الانكليز فسل عنهم من هذه الجهة في الهند يُخبروك بالعجب العجاب. لا، بل سل ضبّاط الجيش المصريّ الذي كان يرافقهم في السّودان. لا بل سل المصريّين أنفسهم بنفس مصر…
لي صاحب من شبان مصر الأباة الأعزّة هو اليوم من أعضاء المجلس النيابيّ المصريّ، سألته عن سبب هجرته مصر أيّام الحرب، فقال لي: كنت قاطعًا تذكرة في الدّرجة الأولى من القطار، فصعدت إلى عربة من تلك الدّرجة، فإذا فيها ضابط انكليزي، فأشار إليّ بالخروج، فامتنعت محتجّا بأنّ لي الحقّ في الرّكوب بالدرجة الأولى بموجب التّذكرة التي معي. فنادى الضابط الانكليزي جنديّا معه فأخرجني بالقوّة. وهكذا رأيت نفسي مغصوبًا حقي، محتقرًا مكاني في وسط بلدي، فلم أتحمّل هذا التصوّر فرحلت.
نعم بهذا وبأفظع منه تعامل الدّول “المتمدّنة” المسلمين الذين استضعفتهم. وقد نصيب في ذلك من وجهة المصلحة الإسلامية لأنّ هذه دروس أليمة نلقيها على المسلمين حتى يترجّلوا ويعافوا الحياة أو يتحرّروا. ومن الغريب أنّ كثيرًا من الشّرقيين لا يزالون ينتقدون ما كان في الماضي يفعله بعض المسلمين مع النّصارى واليهود في بلاد الإسلام – وهو انتقاد في محلّه – من عدم أعطائهم الحرمة الواجبة، ومن زحزحتهم عن رتبة المماثلة. ومن قولهم كلمة “أشمل” أيّ أن المسلم لابدّ له أن يمشي على اليمين. وهو تعصّب قبيح غير مندوب ولا مستحب. بل الشّريعة في أصلها لم تأمر بشيء من هذا. وقوله تعالى (وَليَجِدنَّ فِيكُمْ غِلْظَةً) معناه أنّه يجب قتال المُشركين.
شكيب أرسلان، برلين 16 ديسمبر سنة 1924
[1] صحيفة الشّــورى، العدد 12، 12 جمادى الثانيـة سنة 1343هـ/7 ينايـــر/جانفــي سنة 1925م