بقلم: الأستاذ المختـار كريّم
واحد من مؤسسي الجامعة التونسية الأستاذ عبدالقادر المهيري الذي انتقل إلى جوار ربه مساء يوم الجمعة 13 ماي 2016 وشيّع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير حشد كبير من أصدقائه وزملائه وطلبته.
وتكريما لروح الفقيد الذي يعدّ من أبرز أساتذة الجامعة التونسية، نورد هذا النصّ الذي مدّنا به مشكورا الأستاذ جميل شاكر والذي كتب سنة 2008 في الذكرى الخمسين لتأسيس الجامعة التونسية، والنّص شهادة قيمة حقيقة بأن يعاد نشرها اليوم، إبرازا لمناقب الفقيد ولدوره الطلائعي في الحقل التربوي.
سنة 2008 قررت كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية تكريم شيوخها المؤسسين؛ وطلب من كل أستاذ متطوع أن يكتب مقالا في أستاذ مؤسس، وكان للأستاذ مختار كريّم شرف تقديم أستاذه عبد القادر المهيري. كما كان له شرف متابعة هذه المقالات لتنشرها الكلية سنة 2010 م في كتيب وضعت له عنوانا هو: ورقات وأعمار: تكريما للمؤسسين في ذكرى الجامعة الخمسين (1958 – 2008).
ما كادت تونس تدرك استقلالها الداخلي سنة 1955 حتّى كان عبد القادر المهيري الشاب اليافع الذي لم يجاوز إحدى وعشرين سنة إلاّ ببضعة أشهر، قد أعدّ شهادة الأدب الفرنسي وتحصّل على الإجازة في اللغة والآداب العربيّة من باريس وعاد إلى وطنه تونس ليباشر التدريس بمعهد خزندار فمعهد نهج الباشا. وكان يمكن لقصّة هذا الشاب أن تأخذ منحى مستقرّا فانحداريا كغالب الشباب لو لم تكن تونس في تلك الأيام في أشد الحاجة لأبنائها المتعلّمين وما كان بإمكانها أن تنهض إلاّ:
بـفـتـية كـسيوف الـهـنـد يـبعـثـهم ***** هـمّ فكلـّهم ذو حـاجـة يَـقِـدُ
فكان عبد القادر من هؤلاء الذين حظوا بشرف البناء الأوّل، بل من أفضلهم؛ وكان يمكن ألاّ يكون في قصّة هذا الشاب ما يدعو إلى الاحترام لو لم يكن في نفسه كما كان في نفوس العديد من شبّان تلك المرحلة من جذوة التحدي ما جعله لا يتوقف عن العمل المثمر النافع إلى يومنا هذا. حسبك أن تعرف أنّه خلال هذه السنة، سنة الذكرى الخمسين، ما زال كما كان منذ أربعة وأربعين عاما مواظبا على الاجتماع الأسبوعي للمجلة العلمية التي كان من باعثيها حوليات الجامعة التونسية، وأنّه صدر له في بيروت كتاب بعنوان مدخل لفهم اللسانيات وهو ترجمة لكتاب روبار مارتان Robert Martin الموسوم بـ Comprendre la linguistique، وأنّه الآن بصدد نقل كتاب آخر بالاشتراك، إلى العربيّة هو معجم تحليل الخطاب Dictionnaire de l’analyse de discours، بل إنّه منذ أيام معدودات شارك في نقاش أطروحة دكتورا بجامعة سوسة. فالرجل من منظور تاريخي لقاء سعيد نادر بين حاجة وطن وعزم نفس.
حلّ الاستقلال حينئذ وطرحت قضايا بناء دولة عصرية ومجتمع عصري وهي قضايا ما عاد حلّها ممكنا بمجرّد الخطب الحماسيّة وعزم الفتيان والفتيات وقوة البدن وحمل السلاح والتضحية بالنفس كما كان أيام الاستعمار المباشر. حلّ الاستقلال واستدعى كفاءات وخبرات جديدة أساسها المعرفة فكان عبد القادر لهذه الفترة مستعدا وعلى هذا الدور مقتدرا.
عرف عبد القادر المهيري أفضل مواقع التأثير ألا وهو التعليم فكان أن شارك في لجان برامج التعليم الثانوي في إطار الدولة الفتية منذ البداية حتّى يومنا هذا. بدأ ذلك سنة 1958 فـ 1967 فـ 1970 برئاسة اللجنة التي كلّفت بالنظر في ملف تعليم العربيّة لمختلف المراحل فـ 90 برئاسة اللجنة القطاعيّة للغة العربيّة. فهذه خمسون سنة من المتابعة اليقظة لتدريس العربيّة في بلادنا.
أثمرت مشاركة عبد القادر المهيري في هذه اللجان ما يمكن أن يُعدّ به، إلى جانب ثلّة من أبناء تونس الاستقلال، أستاذَ كل التونسيين جميعا أو على الأقل كلَّ من بلغ منهم مرحلة التعليم الثانوي. ففي إطار المدرسة العصرية استند تدريس اللغة العربية نحوا وصرفا ومعانيَ إلى النصوص؛ منها ينطلق الدرس وإليها يعود ترسيخُه في تمارين متعدد متنوعة حاملها نصوص منتقاة من عيون الأدب العربي القديم أساسا والحديث أحيانا. فمَنْ من التونسيين ممن ولدوا قبيل الاستقلال فصاعدا، ممن بلغوا التعليم الثانوي لا يذكر كتاب النحو العربي من خلال النصوص : السنة الأولى؛ وكتاب النحو العربي من خلال النصوص السنة الثانية؛ و كتاب النحو العربي من خلال النصوص “نحو الجمل”: السنة الثالثة؛ و كتاب النحو العربي من خلال النصوص نحو المعاني”: السنة الرابعة؛ ومن منهم ممن مُتّع بحس وذوق لم يتلذذ تلك النصوص الدرر قبل معالجتها لغويا فصَحّ لسانه بها قبل أن يصِح بالقوانين المستخرجة منها. ولهذا فإننا نعدّ كلا من عبد القادر المهيري والمرحومين عبد الوهّاب بكير والتهامي نقرة، وعبد الله بن عليّة أساتذة كل التونسيين.
ولم ينقطع عبد القادر المهيري عن أبناء تونس اليوم إذ كان المشرف سنة إحدى وتسعين وتسع مائة وألف على تأليف كتب اللغة للسنوات السابعة والثامنة والتاسعة من التعليم الأساسي وهي تقابل تلك الكتب المذكورة سابقا والتي تعلمنا بها وتعادلها.
وكانت هذه المساهمات تكفي ليُعَدّ عبد القادر المهيري من أبناء تونس النشطين البارّين لو لم يكن وطنه في حاجة إليه ليضرب في وجوه أخرى من البناء ولو لم تكن نفسه تطمح به إلى آفاق أبعد وأرحب ولذلك فإنّ مساهمته في تنظيم برامج التعليم الثانوي لم تكن سوى فاتحة لتنظيم تعليم عال جدير بهذا الاسم تنفصل به تونس عن تبعيتها لفرنسا – إذا كانت تطمح فعلا إلى الاستقلال – ولذلك كانت مساهمة عبد القادر الأساسيّة في بناء التعليم العالي وترسيخ دعائمه.
وفعلا فإنّه ما تَحُل سنة تسع وخمسين حتّى يتحصّل هذا الشاب الطموح على شهادة التبريز من باريس وما تَحلّ السنة الجامعية اثنتين وستين حتى يلتحق بالتعليم العالي إذ نجده أستاذا مبرّزا في مدرسة الأساتذة المساعدين ابتداء من أكتوبر سنة اثنتين وستين. ولا يلبث هناك إلاّ سنة واحدة ينتقل بعدها برتبة مساعد إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية فأستاذا مساعدا بنفس المكان ابتداء من أكتوبر سنة سبع وستين فأستاذا محاضرا سنة سبعين بعد أن تحصّل على شهادة دكتورا الدّولة من جامعة السربون ببحث أساسي في النحو بعنوان نظريّات ابن جنّي النحوية théories grammaticales d’Ibn Jinni Les فيسارع صحبة ثلّة من زملائه وقد توفّرت الشروط إلى إنشاء المرحلة الثالثة بإحداث شهادة التبريز ومسلك دكتورا الدولة وبهذا اكتملت مراحل التدريس في مادّة العربيّة لغةِ البلاد وحاملِ تاريخها ومقوّمات شخصيتها وعنوانِ استقلالها، وكانت شهاداتها العليا، قبل ذلك، تُسلّم من باريس عاصمة المستعمر في لغة المستعمر. فحققت تونس بذلك مقوّما جديدا من مقوّمات الاستقلال الفعلي.
ولم يكن عبد القادر المهيري أوّل من باشر التدريس بالتعليم العالي في تونس وما كان مولده ليسمح له بذلك فقد بدأ هذا التعليم وهو لمّا يُجاوز التاسعة عشر من العمر، ولكنّه مع ذلك حاز السّبْقَ فيه إذ كان أوّلَ من شرّف الجامعة التونسيّة بأن نوقشت في رحابها (وفي كليّة 9 أفريل بالذات) باكورةُ أطروحات دكتوراه الدولة، فكانت أطروحة الأستاذ عبد السلام المسدّي في الثاني عشر من جانفي سنة تسع وسبعين تلتها أطروحة الأستاذ محمّد الهادي الطرابلسي في السادس والعشرين من ماي من نفس السنة ثم أطروحة الأستاذ حمّادي صمّود في جوان من السنة الموالية.
وتواصل نقاش أطاريح دكتورا الدولة التي أشرف عليها عبد القادر المهيري حتّى بلغ إحدى عشر أطروحة إضافة إلى أطروحة موحّدة كانت، وقد أدركه النظام الجديد، خاتمة العنقود. أمّا شهادة الكفاءة في البحث وهي شهادة معادلة لشهادة الماجستير اليوم فقد بلغ ما تمّت مناقشته ما يربو على الخمسين بحثا. فحقق عبد القادر بذلك حلما وطنيا دفينا.
كيف تمكّن عبد القادر من تحقيق هذا ؟ لسنا نعرف على وجه الدّقة كيف؟ فلم يكن عبد القادر أوّلَ من باشر التدريس بالتعليم العالي، ولم يكن الوحيدَ من زملائه ممن قضّوا أربعا وثلاثين سنة تدريسا في هذا التعليم، ولم يكن أخفهّم ظهرا من أعباء التسيير الإداري العلمي فهو لم ينقطع من إدارة معهد عال إلى عمادة كليّة إلى إدارة قسم إلى رئاسة جامعة إلى كتابة دولة إلى رئاسة لجنة. أكان طلبتُه أشدَّ اجتهادا من غيرهم أم كان يستأثر دون زملائه بنخبتهم أم أنّ من يجاوره ويعاشره منهم يقتبس من جذوة حماسه قبسا؟ لسنا ندري ولكنّ الحقيقة ماثلة أمامك بكل صلابة الوقائع التاريخية. واليوم لو كلّفت نفسك عناء النظر في أقسام العربيّة شمال البلاد ووسطها وجنوبها لوجدت عمادها في التدريس والبحث والإشراف على البحوث طلبةَ المهيري وطلبةَ طلبته؛ حلقاتٍ من الأجيال متلاحقةٍ متلاحكةٍ متلاحمةٍ، ترعى علم النحو والبلاغة وفنون شرح النص بأدقّ الأدوات وأمضاها.
وليس الأمر كمًّا دونَ كيفٍ. فبين الموسوعية والضربِ في كل ميدان بسهم ضربا يسمح بالشيوع لدى العامة والخاصّة ويُبطر صاحبه بسراب العظمة فيقعده عن الجدّ والعطاء وبين الاختصاص والأثر المقصور على حلقات المختصّين الضيّقة اختار المهيري الاختصاص واختار من اختصاصات العربيّة النحوَ وما أدراك ما النحوُ، علمٌ ترك فيه السلف للخلف صرحا مشيدا وبناء عتيدا قويّ البنيان حكيم الأركان. فقد دخل القدماء بيت العربية فأبانوا عن حكمته ودخل المهيري بيت النّحاة فأبان عن حكمتهم وحكمة ما بَنَوْا.
بدأ في ذلك بأطروحته متأمّلا البناء وقد اكتمل مع ابن جنّي وأستاذه أبي علي الفارسي مصعّدا، في بحوث تعدّ بالعشرات، إلى المؤسسين الأوائل أبي الأسود الدؤلي وثلته يحي بن يعمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ونصر بن عاصم وعطاء بن أبي الأسود وهم الذين أخذ عنهم علماء البصرة أبو عمرو بن أبي العلاء وابن أبي إسحاق الحضرمي وأبو الخطّاب الأخفش وعيسى بن عمر الثقفي فأبو زيد الأنصاري ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد الفراهيدي فسيبويه وأبو عثمان المازني والمبرّد وجماعة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي والكسائي والفرّاء وثعلب محدّرا إلى المتفلسفين مع أبي القاسم الزجاجي فأبي البركات الأنباري إلى الموسوعيين ابن يعيش وابن هشام الأنصاري والسيوطي غير ناس الغرب الإسلامي مع ابن مضاء القرطبي وابن عصفور الإشبيلي وأبي حيّان الأندلسي، متبيّنا طبقات هذا التفكير العميق فاصلا بين ما كان للتعليم عمّا هو للتفقّه وتدبّر النظام والانتظام، بين ما هو من الوصف الدقيق وما هو من استبطان النسق والغوص في كيفيات اشتغاله بتقدير المسكوت عنه ذي الآثار في المصرّح به.
فكان له في هذه المعاناة مناعة من أن يسارع باتهام هذا العلم الأصيل الأثيل ومؤسسيه الأفذاذ بالقصور إمّا بسوء فهم النظام أو بالنقل عن منطق اليونان أو بأنّهم لم يتساءلوا تساؤلاتِ سوسير أو شومسكي، ولم يشتك حينا من أنّ النحو العربي لم يكن وصفيّا وحينا آخر من أنّه لم يكن ذهنيا.
لم يُلق بهذا التراث في المزبلة مستهترا متعاليا ولم يحتضنه مقدّسا متبرّكا، لم يكتب شيئا من ترّهات الإعجاب والانسلاب لينقلب عليها بعد حين كما فعل بعض مجايليه، بل سلك مسلكا وسطا، مسلك المفكّر المتدبّر المتأنّي. وعبارته دالة على ذلك؛ بسيطة عارية، مشغولة بالقصد عن التنميق والتزويق؛ تمضي إلى المعنى من أقرب طريق وأوضح اصطلاح لا تلتوي بك – وعقلك متحفّز للفكرة – في مجازات واستعارات وكنايات وفضفضة وشقشقة يُقبلُ عليها المبتدئون ولا يحتملها العارفون.
ودروس عبد القادر مثل بحوثه موضوعا وتخطيطا وصوغا؛ يمضي بطلبته بين محاضرة وشرح حتى يَبين السويُّ من السقيم في وجهات النظر. وغالبا ما كان الفوز للقدماء لا لقدمهم ولكن لعقلانيتهم. وليس في العلم قديم وجديد؛ إنّما فيه صحيح وخاطئ، قادر على التفسير وعاجز، ميسّر للفهم ومعقِّد. وللعرب نظريّة نحوية فمن أراد تحطيمها فليكشف فيها العجز عن التفسير وليأت بما هو أنجع منها.
وطلبة عبد القادر اليوم ما طلبته؟ موزّعون في شعب علوم اللغة بين نحوي صرف وبلاغيّ صرف وشارح للنص يفتق مكنوناته من لغته وبنائه وأساليبه حتّى لكأنّه ينشئ معانيه إنشاء؛ كَفَوْا هذا الوطنَ حاجته ومدّوا يد العونِ لمن طلبها منهم في الوطن العربيّ وغيره، يدعوهم المشارقة والمغاربة وجامعات أوروبّا إلى التدريس والندوات وإلى إلقاء المحاضرات ويحكّمونهم في ما هم فيه مختصّون.
وعبد القادر ما يزال إلى جانبهم صلة بين البدء واليوم يشاركهم كدّ البحث ومتعته؛ ما زال كما بدأ مشروع إنسان ناجح بالمعنى الوجودي للعبارة. فما سرّ هذا المعين المتجدد؟ بسيط. توزيع للوقت حكيم وانضباط لشروطه، وانصراف إلى البحث والتدريس والتسيير انصرافا لا تشج سورته ووجعه إذا اشتدّا إلاّ عطلة على ضفاف تونس الجميلة وقراءة ما خفّ من القص البوليسي وما شابهه تستعيد بهما النفس المغطرشة صفاءها والبدن المكدود إرانه. فطوبى له هذه المسيرةُ الحافلة وطوبى لوطنه تونس ثمراتُها.