بقلم: مصطفى الســتيتي
في أواخر القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت أحوال البلاد العربية والإسلاميّة قد بلغت من التخلف مبلغا خطيرا جعلها فريسة للغزاة المستعمرين، ينهشونها من كل جانب ويتآمرون على الفتك بها ليل نهار، ويعملون على اجتثاث جذور انتمائها، ومقومات ثقافتها القومية والإسلامية. ففي هذه الفترة كانت الجزائر محتلّة من قبل فرنسا منذ سنة 1830م، ثم استولت على تونس عام 1881م، وكانت بريطانيا جاثمة على بلاد مصر بعد ذلك بعام واحد. وفي ظلمات تلك الأحوال العصيبة، انبثقت روح المقاومة والكفاح الوطني، وبرز فيها زعماء ورواد، حملوا لواء المقاومة ونذروا جهدهم وأوقاتهم وعلمهم في سبيل استنهاض الأمّة، وكابدوا في سبيل ذلك كل ألوان المعاناة من الملاحقة والتعذيب والسجن والنفي. وكان من بين هؤلاء الزّعماء عبد العزيز الثعالبي، فقد قادته رحلته الطويلة إلى بقاع شتى من العالم، وعندما حلّ بالكويت اُحتفي به أيّما احتفاء.
“هؤلاء لا يَخرجُون إلا بالحَرب….”
ولد عبد العزيز الثّعالبي بتونس سنة 1874م، ونشأ في كنف جده عبد الرحمن الثعالبي القاضي الجزائري الذي هاجر من الجزائر إلى تونس رفضا للعيش في ظل الاستعمار الفرنسي وأنفة من أن يعمل في خدمة الفرنسيين محتلي بلاده. وحفظ عبد العزيز الثعالبي القرآن الكريم وزاول دراسته بجامع الزيتونة، والدّراسة العليا بالخلدونية. وعندما كان في السّابعة من العمر كانت الجيوش الفرنسيّة تغزو تونس وتحتلها (1) ، وتهين أهلها، وكان مشهد أمّه وهي تبكي جعله يتّخذ موقفًا حاسمًا من المستعمر منذ وقت مبكّــر: “كنت صغيرًا ورأيت أمّي تبكي، فسألتها السّبب فقالت: أمَا رأيت الفرنج مرّوا من هنا؟ وهؤلاء لا يخرُجون إلا بالحرب” (2). وقد اختار مقاومة هؤلاء الفرنج بجميع الطّرق المتاحة.
كانت أسلحة الثعالبي وأدوات نضاله هي: الخطابة والكتابة الصحافية، والبحث العلمي الاجتماعي والاقتصادي. لكن السلطات الاستعمارية أخذت تضيق الخناق على حركته، وتلاحقه، وتعطل الصّحف التي يصدرها أو يكتب فيها. وهكذا لم يكن أمامه من سبيل لخدمة قضية بلاده، والقضايا التي آمن بها، إلا الهجرة وإيصال صوت وطنه إلى أصقاع العالم وأسماعه، فضحاً لاستبداد الاحتلال، وطلباً لعون الأشقّاء.
وبطريقة خفية، عبر الشّيخ عبد العزيز الثعالبي حدود تونس إلى طرابلس فبنغازي، فاليونان فبلغاريا وصولاً إلى الآستانة عاصمة الخلافة، ومنها إلى القاهرة مركز الثقافة والفكر والنّهضة. وفي عام 1902م وبعد أربع سنوات من التّرحال، عاد الثعالبي إلى تونس. عاد، كما يقول العالم التّونسي محمد الفاضل بن عاشور “غريب الشّكل والنّزعة والمنطق والقلم، يتكلم بأفكار جمال الدّين الأفغــــاني ومحمّد عـــــبده ويعجب بالكواكبي (…)
ويدعو إلى التطور والحرية وفهم أسرار الوجود” (3. وفي تونس، برز الثعالبي كأحد أهم قادة الكفاح الوطني ضد الجمود الفكري، وضد الاحتلال والنّهب الاستعماري للثروة الوطنية، وضد تخريب مناهج التعليم والإسلامي. وجعل من صحيفته “التّونسي” العربية، و”التّونسي” الفرنسية، صوتاً لمجاهدي طرابلس الغرب ضد الغزو الإيطالي عام 1911م.
التّضييق عليه والهجرة
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، أخذ الثعالبي يهيئ لمرحلة ما بعد الحرب، وتم تأسيس الحزب الحرّ الدستوري، ووقع اختياره بالإجماع زعيماً له. ثم سافر إلى فرنسا وتقدّم إلى الرّئيس الأميركي ويلسون بمذكرة تطالب بالاستقلال. كما أصدر كتابه الشهير “تونس الشهيدة” باللّغة الفرنسية، الذي شرح فيه جرائم الاحتلال البشعة بحق الشّعب التونسي.
ومضى الثعالبي في مقاومته العنيدة، يغذي الضمائر والقلوب بروح الانتماء للوطن والعروبة والإسلام، ويحفز الهمم على المقاومة والكفاح. وعندما شعر بالتآمر للتخلص منه، لم يكن أمامه سوى العودة إلى عبور الحدود، فكانت هجرته ورحلته الكبرى إلى الشّرق، التي استمرت من عام 1923 حتى عام 1937م.
كانت سنوات هذه الرّحلة من أغنى مراحل حياته وأثراها؛ ارتحل خلالها إلى إيطاليا واليونان واسطنبول، وإلى الهند والصّين وإيران. واستقرّ ست سنوات منها في بغداد، وعاين بلاد الجزيرة العربية والخليج، ورسا به المطاف في القاهـــرة. في كلّ محطة من محطات رحلته، كان رمزاً مشعاً للتنوير والنّهضة، ومحفّزًا للهمم من أجل الحرية والكرامة وحياة أفضل. ولذلك كان يحظى بالتكريم في كل مكان يحلّ به.
الثعالبي في الكويت
بعد رحلة طويلة زار خلالها الهند واليمن ودبي وعُمان والبحرين زار الكويت، وشهدت حفلات تكريمه في زيارتيه حشداً من أعلام الأدب والشّعر، وقيل في شأنه النّثر والشّعر. وكانت الزّيارة الأولى عام 1925م ، بينما كانت الزّيارة الثانية في عام 1928م.
زار الثعالبي الكويت في المرة الأولى في ذي القعدة سنة 1343 هـ/1925م، ونزل ضيفا عليها. وقد وصف رائد الصّحافة في الكويت عبد العزيز الرّشيد كيف استقبل الثّعالبي في الكويت حين أتاها بالباخرة من البحرين، حيث هرعت إليه ثلة من أبناء الكويت المتعلمين على ظهر زورق ليستقبلوه من الباخرة، فيما اصطف النّاس على شاطئ البحر يهنّئونه بسلامة الوصول. وأثناء هذه الزيارة توافد علماء وأدباء وتجار وأعيان الكويت يرحبون بمقدمه، ويستزيدون من علمه وأفكاره التي تحض على التحرر من الأوهام والخرافات، وتؤكد أن الدّين الصّحيح لا يخالف المدنية ولا العلوم العصريّة ولا يجافيها، داعياً أهل الكويت إلى الاهتمام بالتعليم والصحة.
وقد تحدث رائد الصحافة في الكويت عبد العزيز الرشيد في كتابه “تاريخ الكويت” عن عبد العزيز الثعالبي ووصفه بأنه “زعيم كبير وأستاذ محقّق، وبطل مقدام وعالم من العلماء المحقّقين، وسياسي أخرس السّاسة المحنكين، ومخلص له في كل حركة أثر محمود وخطيب مفوه يحق للشّرق أن يُفاخر به الغرب وأبناءه، ولا غرو فالزّعيم التّونسي الشّيخ عبد العزيز الثعالبي من رجال الشّرق المعدودين ومن زعمائه الكبار الذين تنجاب الغياهب لبوادر هداهم ومعرفتهم، زعيم لا يسمح الوقت بكثير من أمثاله”(4).
وقد كان لزيارته تأثير كبير على الحركة الفكريّة في الكويت. وكان يعقد المجالس الأدبية والفكرية، كما كان يلقي الخُطب فتلقى إعجابًا شديدًا من قبل أهالي الكويت المثقفين “أقام هذا الأستاذ الكويت بزيارته وأقعدها، وشهدت منه ما لم تشهده في حياتها من شخص غيره. انعقدت على محبّته القلوب وأكبره صغير القوم والكبـير، وأقـاموا له الاحتفالات الشّيقة في المعـاهد العلمية والأدبية” (5).
واحتفاء بهذا الضّيف ألقى عبد العزيز الرّشيد أمام الشّيخ الثعالبي في النّادي الأدبي(6) قصيدةً جاء فيها:
هذا احتفال قد كسي بجمال فلمن أقيم على رُبى الإجلال ؟
ولمن أنير سماؤه في ساحة تجلو الظلام بنورها المتلالي؟
العالم ملك القلوب بهيبة هي هيبة الآســـاد والأشـــبال
وقال أيضا:
يا من علا متن الزّعامة مدركًا ما ليس يدركه أخو إهمال
إن الزّعامة باسمكم قد شرفت وسواك يحسبها حلى ولآلي
وسواك يخطبها ليرفع قدره وأراك أنت خطيبها المتعالي
يا من تصارع والخطوب بهمة هي همة من قائل فعال
إنّ الكويت تزيّنت بقدومكم يا زينة الأقران والأبطال (7).
ومن الشعراء الذين تغنوا بمقدمه الشّاعر الكبير صقر بن سالم الشّبيب (8)، وهذا الشاعر لم يستطع حضور الحفلة التي أقيمت للزّعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي في زيارته الأولى للكويت سنة 1925م، ولذلك أراد الشّاعر أن يكفّر بالشّعر عن تقصيره أثناء زيارة الثّعالبي الثانية سنة 1928م. أقيمت للثعالبي حفلة في مدرسة السّعادة، فكتب الشّبيب قصيدة عصماء يمدح فيها ضيف الكويت، ألقاها نيابة عنه في هذا الاحتفال الشّاعر عبد اللطيف البراهيم النّصف، يقول فيها:
بالرّغم مني كنت أمس مقصّرًا في واجبي نحو الزّعيم التّونسي
والعفو منه أرتجيه فإن عفا فالعفو من شيم اللبيب الكـيّــس
والعقل في عبد العزيز موفّر فلـذاك من عفـو لـه لم أيـأس(9( .
ومنها:
إن كنت يا عبد العزيز إلى العلا تسعى وللمجد الرّفيع الأقعس
فاهنأ فنجم علاك مرفوع على شهب المعالي الزّهر شمّ الأرؤس
ثم يقول:
أمّا الكويت فلا تسل عن أنسها بقدومك المولى السّرور المؤنس
عمت بمقدمك الكويت مرّة مـن أخمــص جُثمانها للقَونس
إني لأرجو أن تؤسس بيننا فيها الوئام فأنت خير مؤسّس
فاغرس بذور هوى الوئام فإنّه ينمو فيجني أن برأيك يغرس
وأزل بحكمتك الخلاف فإنّنا منه لشقوتنا نسيــر الحنــدس (10).
وحاول الشّاعر تقبيل يد الزّعيم التّونسي عندما عانقه، ولكنه لم يمكنه من ذلك فقال:
إنّي هممت بأن أقبّل أنملاً ركبن في يمنى الزّعيم التّونسي
حتّى إذا ما كدت أحظى بالذي فيه لنفسي فخــرها في الأنفس
عن العثار لطرف حظّي فانثنا بي دون غاية مفخر لي أقعس
لم لا أقبل كفّ رامٍ إن رَمى هدف الحقيقة كان خير مقرطس (11).
كما نجد من بين الشّعراء الذين تباروا في مدح الشّيخ الثعالبي والترحيب به الشّاعر والمثقف سليمان العدساني، إذ يقول في إحدى قصائده:
أنت عبد العزيز أعلى مقامًا كلّما رمتُ وصفكم في كلامي
يا لقومي، وما عهدت كرامًا ألفوا الذلّ فانهضوا باعتزام
من لحمل اللّوا وصد الأعادي من لصوص الحمى ورعي الذّمام
ليس عيش الجبان يا قوم عيشا فدعُوا الجبن وانهضوا للأمام (12).
إن فكر الشّيخ عبد الثّعالبي المتصل بالتراث الإسلامي النيّر الطامح إلى الرّقي على أسس علميّة، البعيد عن الخرافة المناهض للتخلّف وجد له صدًى واسعًا في الكويت كما في بقية مناطق الخليج التي شملها بزيارته. وقد انعكس ذلك كما رأينا في حجم التفاعل الذي لقيته زيارته إلى الكويت، وما كُتب حوله شعرا ونثرًا. ومما زاد من تأثير زيارته وانتشار صداها تزامن زيارته مع تأسيس النّادي الأدبي في الكويت عام 1924م، هذا النادي الذي مثل نقلة نوعيّة وقفزة كبيرة في الحركة الأدبية والفكرية. فقد أصبح منذ تأسيسه جالبا للطّاقات الشبابية الفكريّة المستنيرة التي تأثرت بالتّيارات الفكرية الحديثة، وتخلصت من ثقافة الخرافة، وأصبح النّادي منطلقا للدّعوة إلى الإصلاح في مجالات كثيرة في الحياة بالكويت.
العراق ثم العودة إلى تونس
من الكويت انتقل الشّيخ عبد العزيز الثعالبي إلى بغداد في صيف عام 1925 بدعوة من صديقه القديم فهمي المدرّس الذي كان قد تعرف عليه في الآستانة. وحال وصوله، استقبل من قبل الملك فيصل الأوّل ابن الشريف حُسين. وبعدها عيّن أستاذا بجامعة “آل البيت” التي كان الأستاذ فهمي المدرّس عميدها. وعلى مدى السنة الدراسيّة الممتدة بين عامي 1925 و1926، درّس الشّيخ الثعالبي حكمة التّشريع والفلسفة الإسلاميّة وتاريخ الأديان. وبسبب غزارة علمه، وفصاحة لسانه، وقوّة شخصيّته، حاز على تقدير وإعجاب النخبة العراقيّة. وكان يحضر مجالسه الخاصّة في بيته الكائن بالقرب من مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني، رجال الأدب والفكر والسياسة من العراقيين ومن العرب الوافدين إلى بغداد مثل الأديب المصري حسن الزيّات صاحب مجلّة “الرسالة”، وكان يحلو له الحديث عن الشعر والشعراء مع جميل صدقي الزهاوي، ومع معروف الرصافي الذي كان قد تعرف عليه في الآستانة.
بعد رحلته الطويلة، قرّر الشيخ الثعالبي العودة إلى تونس. وكان ذلك في شهر يونيو- حزيران 1937. وفي الباخرة التي أقلته من مرسيليا إلى ميناء حلق الوادي رافقه المناضل الشّاب صالح بن يوسف والعديد من المناضلين الوطنيين. وفي تونس، انتظم حفل كبير احتفاء بعودته. وكان المنشقّون عن الحزب الحرّ الدستوري، والذين أسّسوا في ربيع عام 1934 حزبا جديدًا أطلقوا عليه اسم: “الحزب الحرّ الدّستوري الجديد” في مقدّمة المحتفين به.
وقد سعى إلى شرح أفكاره السّياسية، وخطته النضاليّة، فقام الشيخ الثعالبي بزيارات إلى العديد من المدن غير أن أنصار الحزب الجديد قذفوه بالطماطم وبالحجارة، وأفسدوا اجتماعاته، وفي بلدة بل تمت مهاجمته بالسّلاح فأصيب بجروح. وقد أصيب بخيبة أمل بسبب هذه المعاملة المهينة وظل يجتمع بأنصاره ويحادثهم في الدين والسياسة والعلم إلى أن وافاه الأجل عام 1944م.
الهوامـــــش :
1- تم غزو البلاد التّونسية في ربيع عام 1881م، وبتاريخ 12 مايو من العام نفسه أُجبر والي تونس محمد الصّادق بك على عقد معاهدة الحماية التي فتحت الطّريق لاحتلال البلاد التونسية لمدّة زادت على السّبعين عامًا، ونالت تونس استقلالها عام 1956م.
2- عبد العزيز الثعالبي، تونس الشهيدة، دار القدس، بيروت 1975، ص. 5.
3- حمد الفاضل بن عاشور، الحركة الفكرية والأدبية في تونس، مطبعة دار الهناء، تونس 1956 ، ص. 57-58.
4- عبد العزيز الرشيد، تاريخ الكويت، منشورات دار مكتبة الحياة 1978، ص. 355.
5- المرجع السابق، الصفحة نفسها.
6- تأسس النادي الأدبي في الكويت في عام 1924م، وبتأسيسه فُسح المجال أمام مثقفي الكويت وعلمائها وأدبائها لتحقيق الكثير من طموحاتهم في التوعية بأفكارهم، والدعوة إلى الاهتمام بالعلم ونبذ الخرافة. وقد استضاف النادي عددا كبيرًا من أعلام العلم والثقافة من داخل البلاد وخارجها.
7- المرجع السابق، ص. 356.
8- شاعر كويتي (1894-1963م )، أطلق عليه معرّي الكويت لما يوجد من شبه بينه وبين أبي العلاء المعرّي.
9- خليفة الوقيان، الثقافة في الكويت، الكويت، الطبعة السادسة 2014م، ص. 334.
10- المرجع السابق، ص. 336.
11- المرجع السابق، ص. 337>
12- خليفة الوقيان، الثقافة في الكويت، الكويت، الطبعة السادسة 2014م، ص. 160.