دعتني المدينةُ ذات يوم لتُشاركني فنجان قهوةٍ. لم أكن لأرفض مثل هذه الدّعوة. وجدتها في ركن المقهى ترزحُ تحت لباسها الرثّ، مثقلة بالهموم و الأحزان. لم تتغير كثيرًا عن آخر لقاء. فقط عقد من رخامٍ طوّق رقبتها. كان هديةً من ألد أعدائها و لم تدري كيف قبلته. ربّما كان الأمر أقوى من إرادتها. كان شعرها أشعث مغبرّا وقد عشّشت فيه الحشرات المجهريّة.
زادت نحافتها حتّى برزت عظامُها. تطعمهم و لا يطعمُونها. أكرمتهم وتركوها للجوعِ ينهشُها. سقتهم المعين وسقوها الحنظل. وجهها رغم التّجاعيد مازال نضرًا يحمل عينين مازالتا تحملان إشراقة الأمل. حتى النّادل بخس قدرها و احتقر طلبها قهوةً ساخنةً تسري في أوصالها الباردة.
هي لا تملك مالا لتدفع، وقد كانت لا تعرف حجم ثرواتها. عصابات النّهب كانت تتواتر عليها بكلّ وقاحةٍ. لم يتركوا لها شيئا تجابه به شيخُوختها، حتّى أولادها الذين احتضنتهم أفراحًا و أحزانًا سلكوا طريق العقوق. لبّى النّادل طلبها مشيحًا وجهه عنها. كان مقدار كُرهه لها يتسرّب من كل خليّةٍ في جسمه. ربما يحملها مسؤولية ما يمتهنه رغم الشّهادة الجامعيّة التي تزوق غرفته. هو أيضا ابن عاقّ وسيهجرها قريبًا إلى أم أخرى تتبنّاه وتُغدق عليه من حنانها، هي حتمًا مدينة حنون.
كانت على قدر كبير ٍمن الجمال و الإثارة. كانت تسيل لعاب الطامعين، فقط لم تتريّث و لم تعرف كيف تختار أزواجها برويّة. زيجة فاشلة وراء أخرى. جميعهم لم يرحموها و لم يكرموها كما أكرمتهم. كانوا في العلنِ يُظهرون لها الحبّ و المودّة. يراقصُونها و يغازلونها ويتفنّنون في كلمات الإطراء. و في طريق العودة من الحَفل تبدأ الإهانات تتهاطل عليها أكثر من المطر الذي يعشق أرضها.
وراء الأبواب كانت تذُوق العذابَ ألوانًا، ترتسم في جسمها الكدمات والنّدوب. قليل من التّجميل الكاذب و تعود مشرقة في الحفل القادم… كم رسمت أحلامًا في زواجها الأخير. ظنت أنّها أحسنت الاختبار هذه المرّة. ظنّت أن شفتاها لن تُفارق البسمة. ستمسح الدّمع وستختفي الكَدمات، سيُراقصها صادقًا. سيغازلها سرًّا قبل العلن، ستعود مثيرةً رشيقة القوام.
كان كابوسًا أشدّ وطأة، حتّى العلن غاب منه الرّقص و الغزل. و غابت الحفلات أيضًا. تتجمّل الكدمات و النّدوب و حتّى الكسور جربتها. شفتاها تشقّقتا كمدًا. كان كاذبًا بارعًا رغم الحبّ الذي أبداه زمن الخُطوبة. الآخرون على الأقل صدقُوا قليلاً. ضربوها سرّا و جمّلوها علنًا، لم أعد أقوى على حمل فنجاني لأرتشف منه بعد أن ذُقت في حديثها جرعةً من الأسى على الحال الذي وصلت إليه.
نهضت فجأة بدون أدنى كلمة، حملت حقيبتها الممتلئة وعودًا، ربّتت على كتفي، بذلت مجهودًا لترسم لي ابتسامة اِمتنانٍ. و خرجت بخطًى متثاقلةٍ و عرجاء نحو دار المسنّين التي تسكنها…