بقلم: بوجمعـة الفيـالي
لتشييد معمرة فسيحة ومريحة، تؤوي إليها العائلة وحيواناتها في الريف، كان صاحبها يسعى – بادئ ذي بدء – إلى توفير ما يتطلبه بناء الهيكل كاملا من أخشاب الزان الصلب، حسب اتساع المساحة المتفق عليها من طرف كل أفراد العائلة. وحسب هذا الاتساع المرسوم، يضبط صاحب المعمرة حاجياته من “التواقيد” و “المعاريض” و”الخطر” و”الرشق” ليتم اقتناؤها من إدارة الغابات.
و” التواقيد ” ج ” تاقيدة ” بتثليث القاف، والتاقيدة هي جذع شجرة زان مستقيم، بطول 3،5 م تقريبا وبمعدّل قطر من 15 إلى 20 صم، وينتهي هذا الجذع في أعلاه بــ :”مذراة” أي “فوركة” لتثبيت” المعراض” عليها.
1) ويتطلب البناء نوعين من التّواقيد: “تواقيد الوسط” برفع الواو وسكون السين، وهي الرئيسية، والأطول والأمتن والأقوى، لأنها ستتحمّل ثقل سقف المعمرة، ثم نجد “تواقيد” “الأجناب”، وهي “تواقيد” جانبية، ثانوية يحصر بها صاحب المعمرة بنايته. ونشير إلى أنّ ” تواقيد الوسط” تكون إما 2 أو 3 – حسب طول المعمرة- وإذا كان عدد تلك التواقيد اثنين: فهي رافعة لــ :”معراض” واحد، أمّا إذا كان ثلاث “تواقيد” فهي حاملة فوقها لمعراضين اثنين (ونتصوّر طول المعمرة في هذه الحالة الثانية).
2) كما تكون مذراة ” التّواقيد الكبيرة أو الصغيرة – المسمّاة بــ: “الخنشوبة” أو “الفركة” في اتجاه واحد لحمل “المعاريض”، وتوضع كل التّواقيد في حفرها، وتركّز بإحكام بعد التثبّت من صحّة اتجاه “الفرك” برفع الفاء ونصب الراء، ج “فركة” وذلك لتسهيل وضع “المعاريض” عليها.
3) المعراض: برفع الميم وسكون العين، هو قطعة خشب زان متينة، معدّل قطرها الأوسط بين 15 و 20 صم، و يربط التواقيد ببعضها البعض، وهي معدّة لحمل “الخطر” بسكون الخاء ج. “خطرة” بنصب الخاء. و”السبط” والقش و الديس.
4) الخطر: بسكون الخاء وفتح الطاء، ج “خطرة” وهي قطع أخشاب زان، يبلغ طولها حوالي 3 أمتار، وتكون خفيفة لمّا تيبس، ولا يفوق معدّل قطرها الأوسط 8 صم تقريبًا . ويتمثل دورها في حمل “السبط” بسكون السين وفتح الباء، والسبط هي غابة شعراء من أغصان الريحان أو الأنج أو البوحداد، تغطّى بها الخطر الموضوعة قرب بعضها البعض بنظام وإحكام.
إذن، لبناء “المعمّرة”، يتم تركيز التواقيد الرئيسية منها والثانوية، وتوضع فوقها المعاريض، كما توضع الخطر فوق المعاريض، وتغطّى الخطر بالسبط، وبطبقة سميكة من القش، ونكون بذلك قد وصلنا إلى المرحلة الأخيرة في السقف، وهي مرحلة التدييس… .
كما يتم رشق “ركاكيز” ج. “ركّاز” بين التواقيد الجانبية لنسج “زريبة” واقية وساترة للمعمرة داخليا وخارجيا، مع ترك مدخل لها . وتقوم ربة البيت الجديد “بتمليس” الزريبة بطبقة من حنّة البقر على كامل الحوش الدائري المسمى في البناء العصري بـ”الجّبّة”، وذلك لحماية المعمرة من هبوب الرياح والصقيع والاحتفاظ بالدفء داخلها. وبهذه المرحلة، مع اكتمال التدييس، تكون المعمّرة جاهزة للسكنى، ولا يبقى إلا بعض الأشغال بداخلها: كتركيز أهمّ شيء في أركانها، وهو: “السدد” ج. سدّة ، مثل سدّة النوم وسدّة العولة – المزاود.
لقد رحل الاستعمار الفرنسي سنة 1956 وترك كل أهالي الريف يسكنون المعمرة أو القربي أو النوالة أو “الكيم”، وهو الاسم الشائع في الوسط الريفي. كما أني أتذكر جيدا أوائل ستينات القرن الماضي، وأنا قاطن بالفائجة، كنت أشهد تبديلا جذريا في بناء تلك المعمرة التي وصفتُ، وقد أدخل سكان دوار الفائجة نمطا جديدًا على بناء المعمرة القديمة، فاستبدل شكلها القديم شبه المستدير بشكل مربّع، أول مرة في تاريخ القربي، وعوّضوا الزريبة التي كانت تحمي المعمرة بجدران مبنية ” بــ: “قالب الطوب” الذي صنعوه من وحل الطين الممزوج بالتبن، فأصبحت المعمرة لها باب محترم ونوافذ وأركان مربّعة كبناءات اليوم.
ولا أخال المسألة خاصة بالفائجة فقط، بل كانت بداية إعلان ثورة على القربي والمعمرة في تلك العشرية الأولى من الاستقلال، وقد عشت التغيير نفسه في كل المناطق التي كانت لي فيها وقفات ومقام سكنى بحكم العمل بها، مثل: قرية العطاطفة بين طبرقة وعين دراهم، عين سلاّم من منطقة الموامنية، قرب بني مطير من معتمدية عين دراهم الجميلة، كما لاحظت هذا في كل الأرياف التي زرتها في شبابي: في نبّر وعقلة شارن وقلعة سنان من ولاية الكاف، وفي تبرسق وتبار ونفزة من ولاية باجة، وكذلك راس الجبل ومنزل جميل وسجنان من ولاية بنزرت.
لقد تغير شكل الرّيف اليوم، بعد برنامج إزالة الأكواخ -عنوان البؤس والفقر والانحطاط- بداية من سبعينات القرن الماضي، وبعد فك عزلة الأرياف بشق المسالك وتعبيد الطرقات الرئيسية فيها، وبالعزيمة الفولاذية لأبنائه وإصرارهم على تحسين مقرات سكناهم بما جلبوه من وراء البحار من أمثلة تهيئة عمرانية عصرية، فشيّدوا بها الفيلاّت الفخمة في أعالي الجبال والسفوح الوعرة، وقد غيّروا تلك الأوضاع البدائية القديمة بأخرى جديدة، وجعلوا ريف اليوم يحلو فيه العيش الكريم وتحلو فيه الحياة.