بقلم: عبد الجليل معالي
يعسر الفصل في الحديث عن المؤرخ التونسي عبدالجليل التميمي بين الشخص والمؤسسة. رجل ارتبط بمؤسسته حد التماهي، وكلما ورد ذكر الرجل يميل الحديث إلى المؤسسة، والعكس جائز. الأستاذ الباحث التونسي عبدالجليل التميمي، أو مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات سيّان، طالما أن الرجل أنشأ المؤسسة وآمنَ بها، ومشى بها رغم كل العراقيل فاشتهرت رائدة في البحث التاريخي وفي استنطاق “تاريخ الصّدور”.
من تونس إلى بغـــداد
المؤرخ التونسي عبدالجليل التميمي وُلدَ عام 1938 في بيت قيرواني (مدينة القيروان وسط تونس)، ودرس التعليم الابتدائي في تلك المدينة العريقة، ثم التحق بالعاصمة تونس ليواصل تعليمه الثانوي الزيتوني، ومنها إلى العراق حيث أحرز الإجازة في التاريخ، ثم اتجه صوب فرنسا حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث عام 1972، وكان موضوع رسالته حول الحاج أحمد باي بن محمد الشريف، باي قسنطينة.
التحق عام حصوله على الدكتوراه بالجامعة التونسية ليدرّسَ التاريخ الحديث. وكان من المشاركين في مشروع تعريب مادة التاريخ في الجامعة التونسية، ثم عُيّن، بعد ذلك، مديرا للمعهد الأعلى للتوثيق الوليد آنذاك، والذي ظلّ على رأسه حتى نوفمبر 1987. إدارته للمعهد الأعلى للتوثيق وغرامه بالأرشيف حوّلا وجهته، نحو وجهة أخرى أكثر عناء، وهي البحث العلمي في التاريخ.
التاريخ علـــم إنساني
هنا قد يبدو الأمر متناقضا أو غير متّسق؛ كيف يمكن إنجاز البحث في علم إنساني غير قابل للتكميم أو الضبط من قبيل التاريخ؟ لكن عبد الجليل التميمي غامرَ بأن أنشأ مؤسسته “مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات”، وكان ذلك عام 1995 في مدينة زغوان غير بعيد عن العاصمة.
يشار إلى أن عبدالجليل التميمي، استعدّ لذلك، أو لنقل أنه “تدرّب” قبل إنشاء مؤسسته الرائدة على الخوض في البحث التاريخي، بأن شارك، أولا، في تأسيس الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف عام 1974، ثم أصدر المجلة التاريخية المغاربية في العام نفسه، وانطلق لاحقا في تنظيم مؤتمرات عالمية حول التاريخ العثماني والموريسكي، وهو ما أتاح له أن يبعث في البداية وحدة بحثية هي “مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات”. ولعل اسم هذه الوحدة واختصاصها كافيان لتبين اهتمامات الرجل وسعيه إلى التوفيق بين تمثل الأثر العثماني، والحضور الموريسكي في الشعوب المغربية، وكذلك تميط اللثام عن شغفه بالتوثيق والأرْشفة.
لكن الانطلاقة الفعلية لحلمه الأكاديمي البحثي العسير، لم تتحقق فعليا إلا مع “مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات” التي كانت مشروعا عربيا رائدا، جمع هموم الرجل العلمية، وسدّ فراغا بحثيا هائلا في المدوّنة التاريخية العربية.
مؤسسة التميمي التي تأسست، بداية، في زغوان ثم انتقلت إلى العاصمة، كانت تنطلق من فكرة آمن بها الرجل بقوة، ومفادها ضرورة تخليص البحث العلمي من كل القيود التي تكبّله. لذلك نقل فكرته إلى مبحثه المركزي، أي التاريخ، فركّز على الوثائق والأرشيفات لقناعة راسخة تسكنه مفادها أن التاريخ العربي الإسلامي يوجد أيضا في تركيا وأسبانيا، فقرر النبش في الوثائق والأرشيفات.
من يكتـــب التاريخ
إيمان آخر عزز فكرة إنشاء مؤسسة بحثية تُعنى بالتاريخ، هي أن هذا “التاريخ” يصوغه، عادة، الأقوياء المنتصرون، ومن ثمة فإنه يوجد “تاريخ” آخر مطموس مغمور في الصدور، لذلك غامر بالبحث في التاريخ الشفوي وتاريخ الاستماع أو “تاريخ الصدور” كما كان يفضل أن يسمّيه. صفحات تاريخية كاملة استلهمها واستقاها من جلسات الاستماع أو من لقاءات الذاكرة الوطنية التي دأبت المؤسسة على تنظيمها كلّ سبت من كل أسبوع، وكان يحرص على تفريغ تسجيلاتها السمعية البصرية، ثم تحويلها إلى نصوص قابلة للنشر والتوثيق والتداول والحياة.
مكّن كل هذا المؤسسة، وباعثها، من تجميع كم هائل من الوثائق والتسجيلات السمعية البصرية التي تحولت إلى شهادات حيّة على مراحل مهمة من تاريخ البلاد التونسية. زمن بورقيبة كان مفصلا مهما من جهد التميمي ومؤسسته، حيث استدعى إلى قاعة المحاضرات بمقر مؤسسته أكثر من 200 شخصية سياسية وثقافية وفنية تونسية، من مختلف المشارب والتوجهات الفكرية والسياسية. تحدث اليوسفيون (من معارضي بورقيبة)/ ورواد جماعة برسبكتيف أو آفاق (اليسارية التي تأسست في الستينات) والدستوريون والزواتنة (إحالة على أصحاب التعليم الزيتوني التقليدي ممن كانت لهم مساهمة في نشر التعليم في دولة الاستقلال) ووزراء بورقيبة وعدد من المقربين منه وثلّة من خصومه ومعارضيه، واستخلص “تاريخ صدور” الفارين من تونس والمساجين السياسيين والطلبة اليساريين وبعض رموز التيار الإسلامي. وكان هؤلاء جميعهم يقدمون شهاداتهم عن المرحلة بحضور صحفيين ومؤرخين ومهتمين بالشأن العام (ولم يكن البوليس السياسي يغيب أبدا عن هذه الحصص والشهادات) كانوا يطرحون أسئلتهم على الضيف أو الضيوف، وكانت المؤسسة توثّق اللقاء صوتا وصورة، ليتم تفريع التسجيل لاحقا ويتحول إلى نصّ حي قابل للقراءة والنشر.
التاريخ الراهـــن
لم يكتف التميمي بالحفر في تاريخ تونس المعاصر، بل إنه خصص لقاءات عديدة للتاريخ الفلسطيني المعاصر، في سلسلة لقاءات أسماها “لقاءات الذاكرة الفلسطينية”، وأذكر أنه استدعى خلالها السفير الفلسطيني في النرويج وبقية البلدان الاسكندينافية، زمن التحضير “السري” لاتفاق أوسلو عام 1991، كما وجه الدعوة أيضا إلى فاروق القدومي (رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية) وكذلك المناضل الفلسطيني عبداللطيف أبو حجلة (أبو جعفر) المدير العام للدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأنتجت تلك اللقاءات، بدورها، وثائق مهمة جدا وحقائق أزعجت بعض الدوائر الفتحاوية آنذاك.
كانت مؤسسة التميمي تنظم دوريا مؤتمرات دولية عُنيت بمفاصل تاريخية بقيت منقوصة أو دون اهتمام تاريخي يليق بها، فاهتمت المؤسسة بالتاريخ العثماني في البلاد العربية، وسلطت الضوء على التاريخ الموريسكي الأندلسي وأثره في المنطقة المغاربية وجدل التبادل الثقافي والفكري، واهتمت أيضا بالتاريخ المعاصر لتونس والمغرب العربي، حيث نظمت المؤسسة مؤتمرا دوليا عن الحبيب بورقيبة، ومؤتمرات عديدة أخرى عن قضايا مغاربية متداخلة مثل “كلفة اللامغرب” (أي الكلفة التي تدفعها أقطار المغرب العربي جرّاء عدم توحدها)، وخصص حيزا واسعا للقضايا الفكرية والحضارية مثل قضايا الديمقراطية والرقابة والمجتمع المدني.
وكان التاريخ الراهن أحد المباحث التي خصصت لها المؤسسة جهدها الأكبر، وهي التي سبق أن أشرنا لها آنفا حيث تولت المؤسسة جمع شهادات عدد كبير من الفاعلين السياسيين سواء من رجال الدولة أو المعارضين وكذلك من ناشطين كثيرين في ميادين مختلفة (ثقافة ومسرحا واقتصادا وتعليما وما إلى غير ذلك من الاهتمامات).
تقديـــس الأقــوياء
التميمي (المؤسسة والمؤسّسُ) حدث معرفي كامل الأوصاف في البلاد العربية، انطلق من فراغات هائلة في الحقول البحثية والمعرفية والعلمية العربية، وتصدى لتقديم بديل تاريخي جديد يقرأ في الصدور، ويصوغ تاريخا جديدا. تاريخ الهامش، أو تاريخ مختلف عن صوْغ رسمي أطنب في تجميل نفسه وتقديس الأقوياء. عندما تتيح المؤسسة، مثلا، فرصة الكلام لمناضل من قبيل المرحوم نورالدين بن خذر، أحد الآباء المؤسسين لحركة “برسبكتيف” (آفاق) اليسارية، الذي قال في لقاء الذاكرة الوطنية المخصص له وللمرحلة وللتنظيم، ما مفاده أنه لا يحقد على بورقيبة الذي سجنه وبدّد معظم سنوات شبابه، وقال إنّه “إذا كانت البورقيبية تعني كما يردد البورقيبيّون الحداثة والنظر نحو المستقبل والديمقراطية، فإن أبناء برسبكتيف هم الأبناء الشرعيون للبورقيبية”، فإن ذلك لا يمكن أن يقال أو يُكتبَ ضمن تاريخ رسمي صاغه ساسة لا مؤرخون.
عُرف التميمي كذلك بمراسلاته الكثيرة إلى العديد من الرؤساء والملوك. كانت كل تلك المراسلات تتخذ وجهة واحدة هي إنصاف التاريخ وردّ الاعتبار. حيث وجه رسالة إلى الملك الأسباني خوان كارلوس طالب فيها أسبانيا بأن تعتذر للعرب المسلمين جراء طردهم عام 1609، وقال التميمي في الرسالة “لقد سمعنا يا جلالة الملك أنكم ستعلنون نوعاً من الاعتذار لليهود. هذا شيء جيد. ولكن تذكروا، يا جلالة الملك، أن العرب المسلمين ينتظرون مثل هذا الاعتذار لهم أيضا”. كما وجه رسالة أخرى إلى الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي، إثر صدور “الكتاب الأسود” (الذي أثار يومئذ لغطا كبيرا في الساحة السياسية التونسية) وجدد فيها طلبا يقضي بنقل “أرشيف مؤسسة الرئاسة إلى الأرشيف الوطني… باعتبار أن ذلك التراث هو ملك للشعب”.
لا يكفي الحيز المحدود لاستعراض كل آثار عبدالجليل التميمي، لكن تكفي الإشارة إلى قائمة إصداراته ومؤلفاته لتبين انشغال الرجل بالهم التاريخي، وإيمانه بأن الحفر في تاريخ البلاد العربية الإسلامية يمكّنُ حتما من تدبّر مستقبلها، حيث أصدر التميمي أكثر من 12 كتابا بدءا من كتابه “بحوث ووثائق في التاريخ المغربي 1816- 1871” الذي صدر عام 1971 وصولا إلى “تساؤلات حول مجتمع المعرفة والمؤرخين والبحث في البلاد العربية” الذي صدر عام 2004، مرورا بـ”موجز الدفاتر العربية والتركية بالجزائر” (1984)، ودراسات في التاريخ العربي الأفريقي (1994)، ودراسات حول العلاقات الإسلامية المسيحية (1996)، و”دراسات في منهجية الحكم والسياسة البورقيبية” (2004) وغيرها الكثير.
كان عبدالجليل التميمي أول باحث ومؤرخ عربي يصل إلى الوثائق العربية في إسطنبول منذ عام 1965، ولذلك تعلم اللغة التركية ليكتشف رصيدا هائلا من المعلومات المهمة في الأرشيف التركي، وهي وثائق تتناول تاريخ “الإيالات” العربية في العصر العثماني، كما توصل إلى وثائق مهمة أيضا تهم الوجود العربي الإسلامي في الأندلس خاصة في المرحلة الفاصلة بين سقوط غرناطة (1492) وطرد العرب المسلمين منها عام 1609.
لذلك لم يكن تكريمه، مؤخرا، من قبل الدولة التركية، ممثلة في شخص رئيسها (المنتهية ولايته) عبدالله غول، بغريب. وعن هذا الحدث قال التميمي “تتميز بعض الأحداث العلمية على المستوى الدولي بدلالاتها العميقة جدا لتؤكد للجميع أن المعرفة والبحث العلمي في جميع الاختصاصات، تبقى هي الرهان الأبقى والأخلد في ذاكرة الشعوب”. التميمي، الرجل والمؤسسة، صوت علمي هادئ، يسعى للحيلولة دون “التجاهر بما يُنافي التاريخ”.
المصـــدر: صحيفة العــرب
كنت في ملتقى دولي في الدوحة وكانت مداخلات عن الموريسكيين، فلما ذكر أسم الاستاذ عبدالجليل التميمي، قام الكثير من الباحثين والباحثات بالثناء على ما قدمهم. كانوا من إسبانيا، من مصر ، المغرب، الجزائر. افتخرنا بانتمائه للعالم العربي. اطال الله في عمره.
أطال الله في عمر سي عبد الجليل، القامة الجليل التونسية التي ساهم في فتح ابواب المعرفة التاريخية والولوج إلى حقائق ظلت مخفية ومجموعة ردحا من الزمن.
الأستاذ عبد الجليل التميمي رجل من رجالات الدولة التونسية البركة التميمي يجب احتراما وتبجيلها