بقـلم: بوعـرفة عبد القـادر
تحدث المتنبي ذات يوم حين استشعر ثقل مهمة المثقف في زمن الشّظف والعجف الفكري، وفي زمن الخيانة والمهانة، فقال:
ذو العقـــل يشـقى في النّعيــم بعقـله ** وأخــو الجهالـــة فـي الشّــقاوة ينعـــم
يصدق هذا البيت على المفكر إدوارد سعيد إلى حد بعيد، فلقد عانى واحترق بمسائل عصره، وأحنت ظهره مهازل أقرانه وأترابه، ولم يرحه سوى انسياب القلم على القرطاس، وتداعي المعاني والصور زمن الاحتراق …. وحال لسانه يقول في عمق: عندما تلد فكرةً ما في ذهني يكون مَوْلدها كجنيين انفتق عن رحم أمه بعد رتق طويل، معلنا أنه لن يكون ابن الأغشية الثلاثة، بل سيكون ابن الفضاء الذي جعله يصرخ باكيا من شدة احتراق أنفاسه بنسائم الحياة.
لن يشعر بهذا الثقل والهم المعرفي إلا المثقف الذي وضع لنفسه أهدافا، ورسم لنفسه طريقا شائكا وصعبا، واكتوى بقضايا أمته، وانشغل بترقية وعيها وفكرها، وانتشالها من غياهب الانحطاط والتّكلس والسّبات الحضاري. وانبرى يدافع في كبرياء عن الشرق وثقافته، وعن فلسطين وأعدائها، وعن المظلومين في العالم والمهجرين، وهو ذاته انتهى به المطاف أن استوطن فندقا حين خسر الشّرق وطنا وأرضا اسمه فلسطين.
هكذا كان إدوارد سعيد وسيبقى، لأنه كتب اسمه في سجل الخالدين بأحرف من اللهب في زمن الجنون كما سماه هو ذاته، وهو فعلا زمن الجنون الذي هيمن على العالم هيمنة شاملة. لم يكن سعيد إدوارد مجرد قارئ هاو ولا إيديولوجي مغامر، بل كان مثقفا وعالما بالمعنى التام للكلمة، درس موضوعاته بجد وعمق ولم يمر عليها مر الكرام:” قضيت عدة سنوات أقرأ عن الاستشراق، ولكنني كتبت معظم هذا الكتاب في العام الدراسي 1975-1976م.”
يُعد الاحتكاك الحضاري بين الشّعوب مسلمة تاريخية، ورغبة إنسانية في معرفة الآخر معرفة تمكنه من رسم استراتيجية المواجهة والتّحدي أو استراتيجية التّحاور والتّجاور والتّعارف. وبناءً على هذه السّنة الكونية، احتكت الحضارة الإسلامية بالحضارات العالمية وخاصة الحضارة الغربية، وقد نتج عن هذا التلاقح ظهور حركة فكرية بالغرب؛ اهتمت بالتراث الإسلامي دراسة ونقدا وتأريخا، سميت بالحركة الاستشراقية، واكتملت صورتها الفعلية مع بداية القرن العشرين، خاصة وأن التواصل الحضاري شهد أرقى مظاهره، وإن اتجه صوب الصراع والتصادم في أغلب الأحيان.
يبدو أن شهرة إدوارد سعيد صنعها كتابه “الاستشراق” أكثر من أي عمل فكري آخر، حيث كان أكثر الكتب مقروئية في العالم، ودليلنا ترجمته إلى عدة لغات عالمية، وقد اعتبرته الأغلبية السّاحقة أنه كتاب يدافع فيه عن الإسلام والشّرق بالرغم من كونه مسيحيا عربيا، غير أن سعيد لا يعترف بذلك، فهو يُنبه النقاد والقراء بأن كتابه ليس دفاعا عن الإسلام وتهجما على الاستشراق والدول الداعمة له، بل هو محاولة تعرية الخطاب الاستشراقي من خلال حمولته اللغوية وأبعاده الإيديولوجية، يقول إدوارد سعيد في هذا الشأن: ” لقد أثار الاستشراق حين صدر في صيغته الأصلية الإنجليزية عام 1978، قدرا لافتا من الاهتمام في العالميين العربي والإسلامي، إضافة إلى اهتمام القراء والدارسين المتخصصين بالشرق الأوسط، وفي عام 1981 صدر الاستشراق في ترجمة عربية لافتة قام بها الدكتور كمال أبو ديب، ليعزز مُقام هذا الكتاب بوصفه إما دفاعا عن الإسلام أو هجوما مقذعا عنيفا ضد الغرب، وكلا الأمرين لا يمت بصلة إلى ما كنت قد انتويته أصلا من تأليف الكتاب.”
يعتقد إدوارد أن مصطلح الاستشراق مع مرور الزمن بدأ يحمل مفهوما سلبيا مقرونا بالخيانة، والغريب في الأمر أنه اتهم من قبل بعض الأطراف الغربية والعربية أنه ضد الاستشراق بينما اتهم من طرف بعض السلط العربية بأنه يمثل التيار الاستشراقي، وعبر عن هذا التناقض بقوله: “مع مرور الزمن اكتسبت كلمة الاستشراق شهرة واسعة باعتبارها لفظة تجريح وتشهير، (ومن المفارقات اللاذعة أنني شخصيا هوجمت من قبل إذاعة ياسر عرفات الرسمية أثناء زيارة قمت بها لفلسطين عام 1996 بتهمة أنني مستشرق.) وذهبت أدراج الرياح التحديات المعرفية والأساسية التي جسدها الكتاب.”
حاول إدوارد سعيد من خلال كتاب الاستشراق الوصول إلى نتيجة عامة، تكمن أصلا في القول ببطلان الحقائق التي يقدمها المستشرقون انطلاقا من القاعدة البنيوية التي ترى أن كل معرفة هي نتاج سلطة ما، والسلطة لا تنتج معرفة من أجل المعرفة بل تنتج معرفة من أجل المصلحة والهيمنة، وهذا يقود بعد عملية التّحليل إلى القول بأن الاستشراق يعبر عن معرفة السلطة لا سلطة المعرفة، بمعنى أن إنتاج المستشرقين يدخل ضمن لعبة التّمثلات والتّمثيلات الرامية إلى تشويه الخصم. وعندما نمارس منهج ميشال فوكو من خلال لعبة المنطوق واللامنطوق، يتبين لنا أن المنطوق الغربي يتمثل في المعرفة والعلم بالشرق، بيد أن اللامنطوق الغربي يتجلى فيما أورد سعيد حين يُفصح عن قناعة الغرب: “لا يستطيع المسلمون أو العرب، ولا أي شعب من الشعوب الصغرى التي سُلبت إنسانيتها، أن يتعرفوا على أنفسهم باعتبارهم بشرا.” ويحيلنا هذا اللامنطوق الغربي إلى إدراك أن الغرب من خلال الدراسات الاستشراقية يريد أن يُعرف شعوب الشرق بحقيقتها من باب أنه الأجدر بالفهم لامتلاكه العلم والمنهج. وعليه، فالغرب ينظر إلى المسلمين وغيرهم من الشعوب على أنهم قُصر ولا يملكون العقلانية لفهم ذواتهم بناء على أنهم شعوبا يحكمها الوجدان والانفعال، بينما أوروبا هي أرض العقل والبرهان.
لا يخفى على أحد أن إدوارد سعيد ينطلق من فلسفة ميشال فوكو، وهذه الفلسفة نفسها مبنية على جملة من المنطلقات المُركبة من عدة نظريات سابقة، حيث تُعد فلسفة فريدريك نيتشه من أبرز مرجعياتها إضافة إلى الفلسفة السفسطائية القديم. عندما نخضع النص الاستشراقي للمنهج البنيوي وفق توظيف إدوارد سعيد فلا بد أن نقر ما يأتي:
– يهدف النص الاستشراقي إلى إعادة تشكيل الشّرق ليس كما هو وإنما كما يريد المُهيمن، أي تشويه الشّرق ونسج معرفة غير حقيقة عنه، وهنا يمارس المستشرق نوعا من الفصل غير العلمي بين الشرق التاريخي الحقيقي وبين الشرق المُشكل تشكيلا مخياليا بغية رسم شرق قابل لكل الاحتمالات التي يفترضها الغرب في صراعه مع غيره من أمم الجّوار.
– يعبر عن نزعة سلطوية مخفية ضمن مقولات العلم والحقيقة، ويتحول العَالم بالاسم إلى سياسي بالفعل.
– يفرض القول بنسبية النص الاستشراقي ارتباطه بالمكان والزمان أكثر من ارتباطه بالحقيقة.
– يفرض ربطه بمؤسسة مختصة في إنتاج النص وفق استراتيجية هادفة، تقوم على ثنائية العمل ضمن المنطوق واللامنطوق، وتقوم تلك السلطة وفق الرغبة الميغالوثيموسية في تحقير الشّرقي ووصمه بالدّونية حتى تتولد لديه ما سماها مالك بن نبي سابقا ب”القابلية للاستعمار”، يقول إدوارد سعيد: “الاستشراق بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق –والتعامل معه معناه التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه الطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسّيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه.”
– أن نقد الاستشراق هو نقد الاستعمار وكشف ألاعيبه ضمن حلبة الصراع الفكري. ثم نقد ما بعد الاستعمار باعتبار أن الهيمنة استمرت في أوجه جديدة أكثر ارتباطا بمقولات العلم والإنسانية. ذلك أن النظرية البنيوية في مسألة المعرفة تؤمن بالتغيّر وإعادة التمظهر وفق التّمثلات الطارئة من خلال حركة الوعي الغاضب والوعي الغاصب، وهما مقولتان مرتبطتان بحركة الميغالو والإيسو ضمن النزعة الغضبية الموسومة عند أفلاطون بالثيميس.
ومن خلال ما سبق، يصل إدوارد سعيد إلى استنتاجه التاريخي، والمتمثل في وجود نوعين من الاستشراق: الكامن والظاهر، وكلاهما ينتمي إلى المؤسسة الإمبريالية، فالتعريف الأكاديمي للاستشراق بات من صور الماضي، وفقد مصداقيته التاريخية حين تحول إلى علم استعماري استعلائي.
المصــــدر: مدونات الجزيرة