بقلـم: فوزية بلحاج المزّي
تطالعنا، يوميّا وسائل الإعلام الوطنيّة العموميّة والخاصّة ، صباحا، مساء ويوم الأحد بخليط من اللّهجات واللّغات تتسابق المنصّات التّحليليّة والبرامج الإخباريّة المختلفة نحو نسق غوغائيّ يبتغي لفت انتباه المستمع والمتفرّج والظّفر بـ”وفائه” وبمتابعته المواظبة واللّصيقة. خطاب تتنافس فيه اللّغات العربيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإنجليزيّة مع اللّهجتين الدّارجتين التّونسيّة والمصريّة. ينطلق الخطاب من وسائل إعلام وطنيّة عموميّة وخاصّة. أمّا وجهة الخطاب فتونسيّة بالأساس، إلى جانب المتلقّين الضّمنيّين الموجودين خارج تونس بالنّسبة إلى وسائل البثّ الفضائيّة.
أسئلــة كثيرة حـــول هذه الظّاهــرة. كيـــف يُخَطّط للخطاب الإعــــلامي في هـــذه الوسائل؟ هل يقع تدارس الآليّات اللّغــويّة المعتمدة؟ هــل تقدّر معطيات مــلامح الجمهــور المعني بهذا الخطاب من حيث انتماءاته الاجتماعيّة والثّقافيّة والعلميّة والاقتصاديّة؟ هل تراعى معطيات الهويّة التّونسيّة المنصوص عليها في الدّستور؟ هل يتلقّى الإعلاميّون المنتدبون تكوينا تكميليّا لتطويرتكوينهم الأكاديمي ميدانيّا وعمليّا؟ هل يقع تقييم دوري للأداء الإعلامي وتعيير وسائله الاتصاليّة في استقصــاء للتّأثير الفعلي لهـــذا الأداء ولجـــدواه بالنّسبة إلى المتلقّين؟
بدأت الازدواجيّة اللّغويّة في الخطاب الإعلامي تتّخذ لها مسلكا في القنوات الإذاعيّة والتّلفزيّة الوطنيّة في العشريّتين الأخيرتين قبل جانفي 2011. وأصبحت تمثّل قاعدة بعد ذلك، بل إنّها صارت بمثابة المثل الأعلى الذي تتهافت القنوات العموميّة على بلوغه وانتزاع «النّجوميّة» من القنوات الخاصّة. ذلك أنّ القنوات الخاصّة استحوذت على اهتمام المتلقّي باكتساب الوتيرة الملائمة لالتقاط الخبر ولبثّه وتحليله والتّعليق عليه. واعتمدت في ذلك على أدوات فنّيّة وكفاءات مهنيّة عالية، إلى جانب رصد الإمكانات المادّيّة الضّروريّة لذلك. على أنّ هذا التّمشّي وقع اختراقه من ظاهرة موازية هي ظاهرة الانفلات الإعلامي الذي نتج عن انفجار الضّغط الذي كان مسلّطا على الإعلام في عهد الاستبداد. وقد وقعت معاينة عدد كبير من التّجاوزات والخروقات الإعلاميّة أتتها عديد الوسائل الإعلاميّة الخاصّة. لم يقابل تلك الخروقات أيّ مسعى لاستراتيجيّة تعديليّة للإعلام ولا أيّ خطّة لتوعية المتلقّي وتحصينه ضدّ الخبر الزّائف والدوس على حقّه في معلومة سليمة و مؤكّدة من مصادرها المشروعة. واقتصرت الهيئة التّعديليّة على التّنديد بتلك الخروقات والإعلان عنها وتسليط العقوبات المناسبة.
أنتج الوضع نوعا من التّحدّي لدى الإعلاميّين على مستوى الإدراك العامّ للتّعامل مع الخطاب الإعلامي ومع الخبر بشكل عامّ. برز مصطلح «البوز» الذي اختلط فيه مفهومان هما الانفراد بالخبر من جهة والتّعجيل ببثّه من جهة أخرى كضمان لاستنفار الاهتمام ولتحديد اتّجاه الرّأي العامّ. وانتفى الفرق بين الحرفيّة الحقّ والحياد وتقصّي الحقيقة كمبادئ أوّليّة وأساسيّة للإعلام من جهة والجري وراء استقطاب المتلقّي استقطابا عدديّا لا مكان فيه للمعطى القيمي ومفاهيم الثّقة والمصداقيّة من جهة أخرى.
لا تدرّس هذه المفاهيم في علوم الإخبار بشكل جدّي ولا تولى لها الأهمّيّة اللّازمة. وإذا كان العكس صحيحا، فإنّ العمل الصّحفي الميداني لا يخلو من عدد من المحاذير التي يتوجّب على الصّحفي أن يتيقّظ لها وأن يواجهها بالتّكوين المستمرّ لتطوير حرفيّته وتعديلها وفق التّغيّرات السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة في السّاحة العامّة، وعلى الأجدر في مراحل الأزمات والتحوّلات الكبرى كتلك التي تمرّ بها بلادنا اليوم. والمعني أكثر من غيره باعتبار هذه المحاذير هي وسائل الإعلام العموميّة، بوصفها مرفقا عموميّا يرتبط بنظم جمهوريّة وبهويّة وبقيم اجتماعيّة وثقافيّة وفكريّة.
وتبقى اللّغة عنصرا محدّدا في اعتبار هذه القيم ورعايتها وتحيينها. وقد كنت تعرّضت في عدد سابق من ليدرز العربيّة إلى ظاهرة الازدواجيّة في خطاب وسائل الإعلام الوطنيّة، بدافع لفت النّظر إلى الاستهجان الذي لاقته هذه الازدواجيّة والتي لا يبدو أنّ القائمين على الإعلام تحسّسوا لها أو فكّروا في معالجتها.
تفاقمت الظّاهرة. وكأنّ الإعلام حسم أمره. فهل إنّ المتلقّي مدعوّ إلى التّطبيع مع هذا الخليط الّلغوي اللاّغي الذي يصبح عليه ثمّ يمسي؟ إنّ المنحى التّشاركي للبرامج الإخباريّة والتّحليليّة كان يمكن أن يلفت نظر القائمين على الإعلام العمومي إلى ضرورة تنقية الخطاب اللّغويّ للمادّة الإخباريّة، إلاّ أنّه في بعض المناسبات التي تدخّل فيها بعض المتلقّين للاحتجاج على ازدواجية اللّغة المتداولة، تعللّ المنتجون بأنّ بعض المصطلحات في البرامج العلميّة والطّبّيّة والاقتصاديّة ليس بالإمكان ترجمتها. وهو، في الواقع، تبرير لنقص في التّكوين إذ أنّ الازدواجيّة كما نلاحظها في الخطاب الإعلامي لا تقتصر على استعارة بعض المصطلحات وإنّما تتجاوزها إلى عبارات المجاملة وأدوات الرّبط في الخطاب وغيرها من العبارات التي لا تخلو منها العربيّة والدّارجة ولا تفتقر إليها أساسا وإلاّ لما صمدت هذه اللّغة على امتداد قرون فيما اندثرت لغات أخرى ولم تصمد أمام محاولات الطّمس والاجتثاث. أين المركز الإفريقي لتدريب الصّحافيّين والاتّصاليّين الذي من مهامّه ضمان التّكوين المستمرّ للصّحافيّين والاتّصاليّين ليتموقعوا في الأطر البيئيّة للمتلقّي الذي يتّجهون إليه بخطابهم؟
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنّسبة إلى الفنون الاتّصاليّة كالمسرح والسّينما، حيث تتعقّد الظّاهرة بالاستعمالات اللغويّة السّوقيّة التي لا تخضع لضرورة جماليّة ولكنّها تنخرط في مراودة صناديق الدّعم الأجنبيّة ومقاييسها المتخفّية تحت قيم التّلاقح الحضاري عبر ازدواجيّة اللّغة. والحال أنّ في مدار هذا التّلاقح الحضاري الموهوم، تهبّ رياح سموم تعصــف بخلفيّة اللّغة ثقــافة وهــويّة وفكرا وقيمــا.
الصّمت المحيط بالظّاهرة يلامس المؤامرة التي يحاك نسيجها من خلال اعتماد الإعلاميّين شكل الأنموذج الذي يضمن وفاء المتلقّي ولكنّ الواقع ينبئ بكارثة التّفسّخ الذي يهدّد مضامين الإبداع الإعلامي والفنّي ويفرغه من بعده التّثقيفي والإخباري الموضوعي ومن مراجعه وخلفيّاته الفكريّة والحضاريّة والمدنيّة.
المصـــدر: ليــدرز العربيــة
مقال جميل، والمشكلة برأيي أوسع وأشمل مما تطرقت إليها الكاتبة. لا أعتقد أن المشكلة نابعة من مجرد استلاب حضاري مزمن تعيشه نخبنا منذ ما قبل الاستقلال، بل هي مرتبطة بفعل نشط ومثابر من قبل الدوائر المسيطرة على المنابر الإعلامية داخليا وخارجيا. ذهبت الكاتبة إلى أن الازدواجية اللغوية في الإعلام بدأت تظهر بجلاء مع انطلاق القنوات الخاصة، وهو ما يفرض السؤال هل هناك ارتباط بين خلط اللغات الأجنبية (وخاصة الفرنسية) بمصادر تمويل هذه القنوات. ولا ننسى أن المستعمر الفرنسي قام في العديد من مفاوضاته قبل منح الاستقلال للدول الأفريقية أن تبقى الفرنسية لغة أساسية في التربية والإعلام. (انظر مفاوضات إيكس ليبان التي أدت إلى استقلال المغرب، و مصير سياسة التعريب التي أتى بها محمد مزالي رحمه الله) ليس ذلك سرا على أي حال بل إنه معلوم من السياسة الفرانكوفونية المعروفة.