بقلم: مصطفى الستيتي
لفتَ انتباهي ما ورد في مقالٍ للسّيد بوجمعة الفيالي عن مهنة صنَاعة البرَادع، وكيف أنّه لما عزم على زيارة الحرفيّ الوحيد المتخصّص في صناعتها بمنطقة عين سلطان لتزويده بمزيد من المعلومات عن حِرفته تفاجأ بأنّ الرّجل أُصيب بالزّهايمر وفَقد ذاكرته، وهو غير قادرٍ على إفادته بشيءٍ ممّا كان يروم معرفته، فأُسقِط في يديه وتأسّف أشدّ الأسف لذلك.
ما حدث مع السّيد بوجمعة الفيّالي مع “البَرادعِي” يَحدث باستمرار مع أشخاص كثيرين مهمّين يحملُون في جُعبتهم تراثًا ثريّا وتاريخًا غنيّا ونفيسًا، وبإصابتهم بالأمراض أو بوفاتهم يضيعُ كلّ ذلك التّراث وكلّ ذلك التّاريخ. وفترة قصيرة غيب الموت شيخًا من شيوخ المنطقة نفسِها يُدعى عم عمّار بن ساسي، شيخ تجاوز عمره القرن من الزّمن، ولنتخيّل ما ضَاع معه بوفاته من ذكريات ومعلومات عن الحَياة الاجتماعية والاقتصاديّة ومن تراث وعادات وتقاليد، ومن أخبار عن علاقة المنطقة بالاستعمار الفرنسيّ وبالثّورة الجزائريّة …. هذا مجرّد مثال على نزيف مستمرّ نفقد معه كلّ يوم مثل هؤلاء الرّجال المهمين جدًّا.
من الواضح أنّ البعض لا يَعنيهم سواء صحّ هؤلاء الشّيوخ أو مَرضوا، عاشوا أو ماتوا، فالأمر عندهم سيّان، أما بالنّسبة إلى الباحث فإن فقدان ذاكرة هؤلاء بالمرض أو فقدانهم كلّية بالموت يُعتبر خسارةً فادحةً لا تعوّض. ومن هذا المنطلق دعونا مرّات ومرات إلى ضرُورة إنقاذ هذه “الذّاكِرات” قبل فوات الأوان لأنّنا إذا واصلنا على هذا النّحو من اللاّمبالاة فإنّه بعد عشر سنوات أخرى أو عشرين سنة على أقصى تقدير لن نجدَ من نأخذُ عنهم أخبار أجدادِنا وتُراثهم وعاداتهم وتقاليدهم وما عايشوه وعاشوه من قسوة ومعاناة.
لذلك يتعيّن على أصحاب العُقول النّيرة من الشّباب، بما يمتلكونه من ذكاء ومن شعور بالمسؤولية، ومن اِطّلاع على وسائل التّسجيل الحَديثة أن يلتقطوا صورًا لمن تبقّى من هؤلاء الرّجال ويجرُوا معهم لقاءات ومقابلات لتقييد ما عندَهم سواء بالتّسجيل الرّقمي أو بالتّدوين الكتابي. هذه مهمّة عاجلة وضروريّة، وهي مهمة كلّ مثقف وكلّ محبّ لموطنه ووطنه.
كم هذا مؤلم أن تندثر هذه الشهادات والوثائق الحية كم من قرية كان فيها كبارها يتقنون مهارات عدة وصناعات أهملها الجيل الذي جاء بعدهم أذكر أن كبار القرية في منطقة عين البية إحدى قرى معتمدية فرنانة كانوا يصنعون محاريثهم و برادعم ومخلاتهم وخرجهم وزنابيلهم وعديلتهم ورحاهم وسلالهم وعكاكيزهم على اختلاف أنواعها وكان أمهرهم جدي البرني رحمه الله كل شيء كان صنعا محليا وحتى الطاحونة الوحيدة التي كانت تملأ القرية أزيزا يسمعه القاصي والداني في أطراف القرية فيبعث على الحياة كانت لعم والدي الأصغر الشاوش الأمين رحمه الله لقد كان هو من يصلح محرك طاحونته بنفسه لأن الناس كانوا يحتاجون إليها كيف لا وهي التي كانت تجعل أهالي القرية يأكلون مما أنتجته أراضيهم من قمح وشعير وفول وحمص وحلباء كم كانت الحياة في القرية رائعة …