أريد أن أكتب شيئًا مفعمًا بالحياة. أريد أن أنسج من الورق ثوبًا لكلماتي، ثوبا أنيقا يدير إليه الرقاب في شوارع التّاريخ الفسيحة. قلمي أصبح متمردًا و لا يأبه لرغبتي. لا يبالي بتوسلاتي، لا ينبض حبرًا. غطاؤه أصبح صخرةً يصعب زحزحتها قيد أنملة…
- ما بالك أيّها الصّديق، وما سبب تمردك ؟
- لست متمردًا و لكنّني أطالب بحقوقي منك كاملة.
همهمت مستغربًا من هذا الطلب الغريب قبل أن أجيبه:
- و بماذا تطالب أيها الثائر الجديد ؟
- كن أنت الثّائر. أريد أن أبكي حبري جزعًا لقضايا الوطن والعالم و الإنسانية..
- ماذا؟ كف عن الهراء الذي أُريق من أجل كتابته حبر كثير. كن أكثر إيمانًا بمشاغل النّاس والوطن. أكتب و لا تبالي.
- أنت تعلم أنّني اتّخذت هذا الطريق سابقًا، كان طريقًا موحشًا ومظلمًا. لا يتهافت عليه سوى قطاع الطّرق…
- كنت جبانًا بلا عزيمة، و أنا لا أريق حبري سوى للشّجعان الذين لا تثني عزيمتهم أهوال ساحات الوغى.
تمتمت في سري وقد اعتراني خجلٌ شديدٌ من قوله “طوبى لهذا القلم الذي نهل من أنهار الحِكمة الكثير والكثير..”.
قطع حواري الدّاخلي و كأنه كان يسمعني:
- أنا القلم الذي رافق العُظماء عبر هذا التّاريخ منذ أن كنت ريشة تختنق أنفاسها في أواني الحبر. أنا القلم الذي حول أفكارهم التي أسهمت في بناء الإنسان إلى واقع ملموس. كن عظيمًا مثلهم حتى يكفّ تمرّدي.
- طبعًا يا صديقي، سأبدأ من الآن رحلة ترك أثر جميلٍ للإنسانيّة. سأكتب بلا خوفٍ و لا وجلٍ، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه. سنعود إلى الطّريق الموحش ونصيّره أنوارًا، وسنواجه قطّاع طرقه بشراسةٍ
- ما أجمل حماسك الذي أراه عليك، هكذا أريدُك، وهكذا أكون فخورًا بأنّك كتبت في يوم ما أفكارك التي ستتوارثها الأجيال.
- شكرًا أيّها القلم الحكيم حين أفقتني من سباتي. كنت أظنّ أنّ ما أكتبه هو منتهى الرّوعة، أنا جدّ آسف حين لطخت تاريخك النّاصع بترّهاتي. سأتغيّر حتمًا، سأتغير وسنصنع سويّا أثرًا جميلاً …
- هيّا انزع عني الغطاء. ضعني بين سبابتك وإبهامك برفقٍ كما عهدتك. اكتب واكتب، و لا تخشَ تمردي …
- فعلاً صديقي، سآتي بورقة بيضاء ونبدأ صفحةً جديدةً.
بدأت زخات كلمات قصيدة تتهاطل على رأسي. ستكون باكورة الأثر الجميل. سنكتب التّاريخ معًا… سوّيت الورق أمامي وبدأ القلم فوقه كركض غزالٍ شاردٍ في صحراء شاسعةٍ، وبدأت الكلمات المتأنقة تنثر سحرها في أرجاء الغرفة، ومن ثمّة ستنثره في أرجاء العالم والتّاريخ. بدأت معالم قصيدتي الأولى تتضح وبدا مطلعها نقطة قوّتها.
دسست ورقتي التي تحمل إبداعي في أحد الكتب الذي كتبه أحد العُظماء من الذين تحدّث عنهم قلمي. أطفأت النّور ومضيت إلى النّوم فخورًا بما كتبته وأنا ممتنّ للقلم الذي جعلني أغيّر منحى كلماتي.
فجأة سمعت صرخة أنثويّة، ثم أردفها طلق نارٍ. نهضت فزعًا وأشعلت الأباجورة المجاورة لفراشي، يا لهول الصّدمة، القلم انتحر بطلقةٍ في الرأس الذي سال منه الحبر غزيرًا. الورقة وجدتها جُثة هامدةً بلا حراك و لا كلمات.
تعرضت على ما أظنّ إلى جريمة خنقٍ من قبل الكتاب الذي دسستُها فيه. لماذا صار كلّ هذا؟ لماذا قَتل القلم نفسه و قتل الكتاب قصيدتي؟ لم أجد جوابًا. أطفأت النّور وأعدت رأسي على وسادتي ولساني يُتمتم بمطلع القصيدة بكلّ فخر: “يا راكبة للشطّ على الكرّيطة يا ماكلة الزّنباع والزّمّيطة…”.