بقلم: عبد الرحيم مفكيــر
يعتبر كتاب “مشكل الثّقافة” لمالك بن نبي رحمه الله أول كتاب عربي يتحدث عن الثقافة “Culture” بالمعنى الذي يتداول في الكتب الغربية. وهذا الكتاب رغم صغر حجمه إلاّ أن فيه عمقا كبيرًا جدّا في تتبع التكوين الثقافي للمجتمعات الإنسانية. ليصل إلى تعريف الثقافة أو تشبيهها بالوسط الذي نعيش فيه بكل مكوناته.
الكتاب يهديه المؤلف “إلى الشّباب المتطلع إلى العودة بالمجتمع الإسلامي إلى حلبة التاريخ”. وهذا الكتاب يظهر موسوعية كبيرة لدى كاتبنا من خلال إلمامه بالجذور الثقافية والمؤثرات الحضارية لعدد من المجتمعات. كذلك نجد الحس الهندسي عند مالك بن نبي يظهر جليا في كتابه هذا من خلال عدد من الأمثلة التي يضربها. من الجميل في هذا الكتاب أن المؤلف يلخص في بداية كل فصل ما تم التوصل إليه في الفصول السابقة، وما سيقدمه هذا الفصل للاستمرار في رحلة الكتاب الذي يهدف لتشخيص مشكلة. أعتقد أن هذا الكتاب يحتاج إلى قراءة معمقة تتواءم مع مستوى طرح الكاتب.
من مميزات الكتاب :
“أي تفكير في مشكلة الحضارة هو أساس التفكير في مشكلة الثقافة” من هذا المنطلق رأى مالك بن نبي أن الثقافة لا تنفصل عن باقي ضروريات الحياة لذلك ضمَّن في سلسلته مشكلات الحضارة كتابا منفصلا تحت عنوان “مشكلة الثقافة” باللّغة الفرنسية سنة 1958، ويحتوي على خمسة فصول، بأسلوب تركيبي تحليلي نقدي.
الفصل الأول: تحليل نفسي للثقافة
حاول البحث في الفصل الأول عن معنى لهذه الكلمة في القواميس عبر العصور المختلفة، وعالج عملية التعريف، فالشيء كي يصبح ذا معنى لابد أن يكون له اسم وفكرة فمفهوم. وتوصل إلى أن فكرة الثقافة دخيلة “فليس لنا أن نتعجب إذا لم نجد كلمة ثقافة في وثائق العصر أو في مؤلفات ابن خلدون، لأن فكرة الثقافة حديثة جاءتنا من أوروبا.”
بعد أن ينتقد بن نبي مفهوم الثقافة في المدرسة الغربية والمدرسة الاشتراكية، ويحدد رؤيته لمفهوم الثقافة بقوله “فالثقافة إذن تتعرف بصورة علمية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه.” وانطلاقا من هذا المفهوم للثقافة ووظيفتها المجتمعية يقوم بن نبي بربطها بالتاريخ والتربية حتى تشكل الثقافة نسقاً متكاملا. “أي إخفاق يسجله المجتمع في إحدى محاولاته، إنما هو التعبير الصادق على درجة أزمته الثقافية”.
الفصل الثاني: تركيب نفسي للثقافة
تحدث عن موقف العالم الإسلامي والغربي إزاء الثقافة، قائلا “إن العالم الإسلامي يختلف في موقفه من الثّقافة عن العالم الغربي وعن العالم الشيوعي، فليست مشكلته منحصرة في محاولة فهم(الثقافة)، وإنما في تحقيقها بصورة عملية.” ولفهمها عمليا على حد قوله لابد من تركيب عناصرها. ولإتمام هذه العناصر لابد من شروط أولها إيجاد صلة بين عالم الأشخاص طبق منهج تربوي بصورة فلسفية أخلاقية، قائلاً في هذا الصدد،” إذن فالأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأي ثقافة.”
وتشمل الثقافة في معناها العام الذي تصوره ابن نبي إطار حياة واحدة تفترق عن العلم، ولا تشكل جزءاً منه أو رديفاً أو تابعاً له، فهي أكثر أهمية وفاعلية من العلم، واعتبر هذا الأخير عنصرًا من عناصر تصوره للثقافة، منحازا إلى هيمنة الثقافة على العلم وتفوقها عليه، محاولاً الكشف عن الفروق الأساسية ما بين العلم والثقافة.
كما أنه ربط الثقافة بالحضارة من جهة كونها محيطاً يحيط بالإنسان، وإطاراً يتحرك داخله، “فهو يغذي جنين الحضارة في أحشائه، إنها الوسط الذي تتكون فيه كل خصائص المجتمع المتحضر، وهي الوسط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعاً للغاية التي رسمها المجتمع لنفسه”.
فتطرق للتراكيب الجزئية المكونة للثقافة، وهي: الأخلاق، الجمال، المنطق العملي، الصناعة. قبل كل ذلك لابد من توجيه الأفكار، وحدد كلمة التوجيه في وحدة الغاية أو الهدف، وفي توافقهما، والتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت، كما حدد من الوجهة التربوية مشكلة الثقافة باعتبارها مشكلة توجيه الأفكار في – جوهرها-، “وليس يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية المتحدة التي نريد تحقيقها”. وعالج بن نبي الأخلاق من الناحية الاجتماعية لا الفلسفية، لأنه يريد تحديد قوة التماسك بين الأفراد بغية تكوين وحدة تاريخية، وتحدث عن الروح الخلقي الموهوب من الخالق للمخلوق، الذي من شأنه ربط الأفراد بعضهم ببعض.
كذلك هو الأمر للتوجيه الجمالي، من جهة أن للجمال أهمية اجتماعية كبيرة، وله تأثير في الروح الاجتماعية، من منطلق ” أن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسوسة الموجودة في الإطار الاجتماعي، فتنعكس في نفس من يعيش فيه” فللجمال تأثير كبير في حياة الإنسان وهو الإطار الذي تتكون منه الحضارة وهو وجه الوطن في العالم. والمقصود بالمنطق العملي هو كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده، لذلك يرى ابن نبي أن المسلم يفتقر لهذا المنطق في حياته رغم أنه يملك منطق الفكرة وهي تعاليم دينه الإسلامي. وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً ليس من شأنه أن يتحول إلى عمل ونشاط إلا ما ندر.
وبخصوص التوجيه الفني أو الصناعة، بنظر ابن نبي هي وسيلة للمحافظة على كيان المجتمع واستمرار نموه، وبالتالي فإن كل ما سبق من توجيهات، لا تشكل شيئاً إن لم تدعم بوسائل معينة لتكوينها. والعلم أو الصناعة هو الذي يعطينا تلك الوسائل.
الفصل الثالث: تعايش الثقافات والفصل الرابع: الثقافة في اتجاه العالمية. وأفرد ابن نبي فصلا كاملا متحدثا فيه بإسهاب عن إمكانية التبادل الثقافي بين الثقافات المختلفة، واستعمل لفظة (تركيبة) بمعنى التعايش، وناقش التعايش على محور طنجة – جاكرتا والتعايش على محور واشنطن – موسكو، مؤكدا أن الخلافات السياسية لا تعيق السير الحضاري لهذه التبادلات. وإن كان هذان الفصلان في تقديري الشّخصي مرتبطين بدرجة كبيرة بالزّمن الذي كتب فيه الكتاب بعد نهاية الاستعمار وتشكل كتلة عدم الانحياز. وبالعموم فهما فصلان صغيران مقارنة بسابقيهما.
أضاف ابن نبي فصلا جديدًا هو الفصل “الخامس” في كتابه ترجمه عمر مسقاوي تحت عنوان “ما ضدّ الثقافة” انتقد فيه بعض المشاريع التي تأخذ أشكالاً متعددة بغية تهديم الثقافة السليمة التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي، ودعا لتنقية مفهوم الثقافة من كل التراكمات التي تحيط به.
كتاب قيم