حاورتـــه: روعـــة قاسم
استعرض المؤرخ والباحث التونسي محمد لطفي الشايبي، الأستاذ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس في هذا الحوار مع “القدس العربي” مختلف التحديات التي تواجه المؤرخ في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة. مؤكدا أن الحقيقة التاريخية لدى السياسيين هي ما يراد إرساؤه ورسوخه لدى المرء من أحداث ماضية مستحضرة ومتماهية مع تأويلات المنتصر وغاياته. في حين الحقيقة التاريخية التي يتوق إليها المؤرخ ويسعى إلى الاقتراب منها، هي جهد لا متناه في استحضار سيرورة أحداث وأعمال البشرية الغابرة والحاضرة من شعوب وأمم عبر الماضي البعيد والقريب. موضحا أن تفشي الفكر المتطرف لدى بعض الشباب التونسي مرده فشل دولة الاستقلال في تحقيق التنمية الكاملة. وصدرت للشايبي عدة بحوث ومؤلفات في حقل التاريخ السياسي والايديولوجي والاجتماعي التونسي.
وفي ما يأتي نص الحوار:
*لماذا هناك قراءات متعددة لتاريخ تونس الحديث، على سبيل المثال فيما يتعلق بالمسألة البورقيبية فهناك عدة قراءات تاريخية بين مناهض لسياسات بورقيبة ومؤيد له من منظور تاريخي فكري، فكيف تفسرون ذلك؟ وهل هناك صعوبة في أن يكون المؤرخ محايدا حيال الأحداث الدائرة؟
**وجب تدقيق مصطلح تاريخ تونس الحديث، حتى يفهم القارئ العربي مدلول الكلمة وحدودها اعتبارا لتحقيب الفترات التي وضعها المؤرخون في الغرب المسيحي اليهودي من جهة وفي العالم العربي الإسلامي من جهة ثانية والتي طالت خمس فترات كبرى: ما قبل التاريخ، التاريخ القديم، التاريخ الوسيط، التاريخ الحديث، التاريخ المعاصر ورديفه الذي يحمل اسم تاريخ الزمن الحاضر أو الراهن. ولا أخفي سرا أنني من دعاة الاختصاص في علم أو فن التاريخ، حسب العبارة الخلدونية المتداولة – الذي ولئن كان ملكا مشاعا لكل من تستهويه الحكاية أو شرح الحدث وتحليله، يبقى أولا وأخيرا من حيث تقنياته وفنياته نقدا وتنسيبا واستحضارا، من شأن دارسه أي المؤرخ. وفي هذا السياق، يبدو لي أنك قصدت بالتاريخ الحديث الفترة المعاصرة، أي التي بالنسبة لتونس تبدأ قبل الاستعمار بقليل، أي بعد حملة نابليون بونابرت لمصر وبداية احتلال الجزائر 1830 ثم واكبته وخلفته مع فترة تصفية الاستعمار في الستينيات من القرن الماضي. وذكرت في هذا المضمار المسألة البورقيبية التي تطرح قضية الحقيقة التاريخية.
علما أن الحقيقة التاريخية لدى السياسيين هي ما يراد إرساؤه ورسوخه لدى المرء من أحداث ماضية مستحضرة ومتماهية مع تأويلات المنتصر وغاياته. والزعيم بورقيبة من صنف المنتصرين. في حين الحقيقة التاريخية التي يتوق إليها المؤرخ ويسعى إلى الاقتراب منها هي: جهد لا متناه في استحضار سيرورة أحداث وأعمال البشرية الغابرة والحاضرة من شعوب وأمم عبر الماضي البعيد والقريب، طارحا سؤاله الجوهري، الأبدي والمؤسس لاختصاصه: ماذا حصل بالضبط؟
ولذا كانت العلاقة بين مؤرخ الفترة المعاصرة أي القرنين التاسع عشر والعشرين والسلطة يعتريها دوما التوتر والاحتراس، باعتبار تباين الأهداف: غاية السلطة توظيف التاريخ بما يخدم مصالحها ويشرعن حكمها، وغاية المؤرخ استحضار ما ظهر وبطن من أحداث من حيث سيرورتها وخلفياتها ووقعها وتداعياتها وتقديم قراءة منطقية لها تحليلا وتفسيرا وتأويلا. وهذه الغاية تستوجب من المؤرخ رصد مصادر ومراجع تلك السيرورة للمغامرة البشرية ومساءلتها بما تقتضيه المنهجية التاريخية من تفحص للوثائق والتحقيق في شأنها أي وضعها تحت مجهر التأطير التاريخي.
ومؤرخ الفترة المعاصرة لا يستند ولا يسائل مصدرا واحدا بل إلزاما ووجوبا ينوع مصادره ويبحث في تقاطعها ويمحص مضمونها ويقارن بين علل أحداثها المستحضرة شفويا (تسجيل الشهادات) والأخرى المدونة في سجلات الأرشيف المكتوب.
أجل القراءات التاريخية للحركة الوطنية وللزعامة البورقيبية ظلت لفترة طويلة حبيسة نظرة الزعيم الأوحد رغم أن مسار الحركة الوطنية نما وتطور في ظل التعددية الحزبية “الحزب الحر الدستوري 1920 والحزب الإصلاحي 1922 والحزب الدستوري الجديد 1934 والأمانة العامة للشق الدستوري اليوسفي المعارض 1955” وتلازم التنافس الزعاماتي بين الحبيب بورقيبة وعبد العزيز الثعالبي من جهة وبين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف من جهة ثانية. غير أن هذا الخلاف بل الاختلاف في الرؤى وطريقة العمل، جعل التنافس يؤول إلى صدام وعنف والمسؤولية تتحملها الزعامات المتنافسة التي لم تركن للتوافق ولم تقدم تنازلات من أجل مصلحة الوطن بل تشبثت كل منها بموقفها الأحادي والصارم. نعم هناك رؤية تاريخية بورقيبية للاستقلال عن طريق سياسة المراحل ومنهاج خذ وطالب والتفاوض مع الطرف الفرنسي وهناك رؤية تاريخية للحزب الدستوري القديم (اللجنة التنفيذية) للمطالبة بالاستقلال التام توا ومناهضة الاستعمار الفرنسي في إطار الدعم العربي الإسلامي. وهناك رؤية تاريخية للزعيم صالح بن يوسف للمطالبة بالاستقلال التام في إطار التضامن مع الثورة الجزائرية والدعم العربي الناصري. هذه الرؤى يدرسها المؤرخ في ضوء مصادرها وزمانها ولا يمكن إهمالها أو تعتيمها.
والحركة الوطنية التونسية شأنها شأن الحركات الوطنية العربية الأخرى التي قاومت الاستعمار الأوروبي، كانت تضم في صلبها قوى متناقضة: معرفية (التعليم العصري والتعليم التقليدي) واقتصادية اجتماعية جهوية (أهل الساحل والبلدية سكان المدن الكبيرة الأصليين مثل تونس وصفاقس وسوسة والقيروان والآفاقيون الذين يضمون أهل الجنوب وبلاد افريقيا والسباسب العليا) وسياسية ايديولوجية مختلفة (قومية عربية، قومية تونسية، حركة زيتونية) آلت إلى موحد “بالحديد والنار” ومنتصر، الزعيم الحبيب بورقيبة. وبهذه الصفة، لا نستغرب اليوم أن تظهر هذه التناقضات وفي ثوب جديد وتنمو في رحاب الديمقراطية. ومن واجب المؤرخ أن يستحضر حقيقة هذه التناقضات ويبسطها للتحليل والنقد ويمكن له أن يبين وجهة نظره. لأن الحقيقة التاريخية هي نتاج جهد بشري لا متناه لرصد المصادر والمراجع ومساءلتها وكيفية توظيفها ومن ثم قابل ومدرك لما نعته المؤرخ الفرنسي مارك بلوك بـ”فن التعديل”، المؤرخ يعدل كتابة التاريخ ولكن لا يعيده.
*الاتحاد العام التونسي للشغل يلعب اليوم دورا هاما في تونس في الحراك السياسي والاجتماعي الدائر، فلو توضح لنا تاريخيا هذا المسار خاصة أنكم كتبتم عدة مؤلفات عن هذا الشأن؟
**يفسر ذلك الدور بالعلاقة شبه العضوية التاريخية بين الحركة النقابية الوطنية والحركة الوطنية التونسية بمكوناتها الرئيسية (الحزب الحر الدستوري التونسي بشقيه القديم والجديد والحركة الزيتونية). وكثيرا ما يجري تعتيم هذه الحقيقة في الخطاب النقابي وفي برنامج تدريس تاريخ الحركة الوطنية والنقابية. ذلك أن العمل النقابي نشأ بعد الحماية الفرنسية سنة 1881 وانخراط المحمية التونسية في المنظومة الرأسمالية العالمية. وبادرت الكونفدرالية العامة للعمل الفرنسية بإرساء فرع لها في تونس سنة 1911 يحمل اسم اتحاد النقابات الفرنسية بتونس، كان جل منخرطيه من الفرنسيين والايطاليين والمالطيين وأقلية من العمال التونسيين خاصة في الموانئ والمناجم، ونشط في إطار الأممية العمالية وشعار التآخي بين الأعراق متجاهلا المسألة القومية التونسية. ولم يكن للعمال التونسيين أي مكانة في صلبه بل ظلوا في أسفل الدرك من حيث التفاضل في الشغل وسلم الأجور.
واكتشف العمال التونسيون المنخرطون في العمل النقابي القضية الوطنية ووجوب تأسيس منظمة نقابية مستقلة في ثلاث مناسبات أو من خلال ثلاث تجارب: تجارب الدستوريين محمد علي الحامي سنة 1924 وبلقاسم القناوي سنة 1937 والتي شملت ميلاد جامعة عموم العمالة التونسية الأولى ثم إحياؤها ثانية، وتجربة الاشتراكي فرحات حشاد سنة 1944 معية الدستوريين الحبيب عاشور وعبد العزيز بوراوي في بعث اتحاد النقابات المستقلة في الجنوب. وقد جدت هذه التجارب الثلاث في ظرف نقابي فرنسي تميز بالتصدع والتخاصم بين الاشتراكية الماسونية والشيوعية سنة 1924 وحصول الاتحاد بينهما سنة 1937 ثم الرجوع إلى التفرقة والاختلاف سنة 1944. المهم أن الدعوة إلى انسلاخ العمال التونسيين من اتحاد النقابات الفرنسية بتونس وتأسيس نقابة وطنية مستقلة حصلت من قبل الدستوريين محمد علي الحامي والطاهر الحداد، ومعاضدة الشيوعي المختار العياري، سنة 1924 وقاومها الاشتراكيون الماسونيون سنة 1925. ويتكرر السيناريو نفسه عن طريق الثلاثي الدستوري الحبيب بورقيبة والهادي نويرة وبلقاسم القناوي سنة 1937 والذي آل إلى إحياء جامعة عموم العمالة وكان سند الحزب الدستوري الجديد للتجربة الثانية فاعلا خاصة في الوسط والجنوب التونسي بفضل النشاط الدعائي الذي بذله كل من المناضلين يوسف الرويسي والطاهر صفر والهادي شاكر، ثم يسلط القمع الاستعماري ويضع حدا للحريات إثر أحداث 9 نيسان/ابريل 1938. في حين تأتي التجربة الثالثة إثر انهزام مرشح القائمة الاشتراكية في انتخاب أعضاء الهيئة الإدارية لاتحاد النقابات الفرنسية اذار/مارس 1944 وانتصار الحزب الشيوعي الذي اكتسح النقابة في خضم المقاومة التي أبداها ضد الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية. ولم يمكث فرحات حشاد طويلا حتى ابتعد عن رفاقه الاشتراكيين ولبى دعوة الكاتب العام للحزب الدستوري حينذاك أ. صالح بن يوسف، لحضور أشغال المؤتمر الذي انعقد يوم 22 آب/اغسطس 1946 وانخرط في النضال القومي جاعلا من قضية التخلص من الاستعمار على الدرجة نفسها من كفاحه الاجتماعي من أجل تحسين ظروف عيش الشغيلة التونسية والدفاع عن حقوقها.
*لماذا انتشر التطرف والإرهاب بشكل كبير لدى بعض الشرائح التونسية وخاصة الشباب؟
**ستفاجئك الإجابة. الأسباب متعددة ومتداخلة. هي إفراز وتجلية لفشل المشروع الإنمائي لدولة الاستقلال. فإضافة للبطالة المستفحلة وتفاقم المديونة الخارجية، يجد الشباب المتحصل على شهادات جامعية أو الذي انقطع عن التعليم، يجد نفسه في وضعية من حيث انسداد الأفق ويصبح معرضا للاستقطاب الديني المتشدد وهو لا يملك في كل الحالات مقومات الاعتزاز بقوميته التونسية العربية الإسلامية: فهو يجهل لغته العربية ويستبدلها بالعامية ولا يشعر بأي رابطة وجدانية أو روحية تشده إليها. وهو يحمل أفكارا خاطئة وسطحية إزاء الأديان السماوية عموما والدين الإسلامي تحديدا، ويجهل تاريخ بلاده الفكري الوسطي ولم يتلق أي تدريس ابتدائي وثانوي حول مكونات شخصيته التاريخية. وفي تلك الحال ومع الوضع الاقتصادي والاجتماعي العصيب، يصبح ذي قابلية للاستقطاب والانخراط في الجماعات المتطرفة والإرهابية.
*أدرتم معهد تاريخ الحركة الوطنية في تونس من 2001 إلى 2007 فلو تحدثنا عن دوره اليوم في خضم السجالات الدائرة؟
**يؤسفني أن أعلمكم أن معهد تاريخ الحركة الوطنية قد تم تغيير اسمه بعد 2011 ليصبح المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، عوضا عن المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية. وذلك على اعتبار أن تاريخ الحركة الوطنية التونسية هو جزء من تاريخ تونس المعاصر. وهو أمر مقبول. غير أن تاريخ الحركة الوطنية التونسية وخصوصيتها يقتضيان الإبقاء على معهد خاص بها لا فقط لتسجيل شهادات الفاعلين السياسيين والنقابيين في فترة الكفاح الوطني أو بناء دولة الاستقلال وجمع ورصد مصادر تاريخ الاستعمار وما بعده، ولكن أيضا ووجوبا لدراسة مفاهيم الوطنية والقومية وعلاقتهما بالماسونية الفرنسية. وهذا ما توصلت إلى عرضه للاطلاع والنقد في مؤلفي السابق الذكر حول “الحركة الوطنية التونسية والمسألة العمالية النقابية 1894 – 1956” وما أنا بصدد إعداده للنشر قريبا: الماسونية في الوطن العربي زمن الاستعمار الأوروبي، تونس مثالا: من ليون روش إلى غي موللي (1856 – 1956).
*الإرث الدستوري كبير في تونس ولكن ألا ترى انه اليوم تحول إلى علامة دعائية لبعض الأحزاب السياسية التي ربما لا تنضوي عمليا تحت لواء الفكر الدستوري؟
**الأحزاب السياسية المتواجدة حاليا على الساحة لا تملك ولا تعرف خلفيات الإرث الدستوري بالنسبة لدساتير 1861 و1959 و2013. فبقدر ما كان دستور 1959 وطنيا صاغه مجلس تأسيسي ضم عناصر النخبة الوطنية النيرة، كان دستورا 1861 و2013 يحملان بصمات التدخل الخارجي. وقد نشرت في “المجلة التاريخية المغاربية” تباعا في أعدادها 171 (الحضور الماسوني الفرنسي منذ الحماية إلى محادثات الاستقلال بباريس 1881 – 1856) و 174 (إضاءات حول تركيبة لجنة الدستور التونسي وأعمالها (حزيران/يونيو – تموز/يوليو 1949) ما يؤكد مقاربتي في خصوص رصد استعمار فرنسي مزدوج جثم على بلدان المغرب الثلاثة (الجزائر وتونس والمغرب الأقصى) وله وجهان: وجه امبريالي (اقتصادي – سياسي) وآخر ماسوني (إيديولوجي – ثقافي). علما أن الحضور الماسوني الفاعل في جهاز النظام السياسي الاستعماري الامبراطوري الفرنسي (رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات ووزراء المستعمرات والمقيمين العامين المتداولين على محمية تونس) طوال فترتي الجمهورية الثالثة (1871- 1940) والرابعة (1947- 1958) مكن من ترويج هذه المبادئ والدعوة إليها من خلال المحافل الماسونية المنتشرة في مدن الإيالة التونسية: الدعوة إلى اللائكية والفكر الحر وعلوية النظام الجمهوري ونبذ الروح القومية وتحرير المرأة المسلمة والإقرار بإيجابية ووجوبية الاستعمار والسهر على ديمومته. وهو ما يسميه الساسة والمؤرخون الفرنسيون بـ”انتصار الأفكار الفرنسية”.
المصـــدر: القدس العربي، 18 فيفري 2019م