الدكتور المنصف وناس: اعتماد “الواسطة” والمحسوبية في المجتمع تترجم غياب الثقة بين الفرد والمؤسسة.
في كتابه “الشّخصية التّونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية”، خصص الدكتور المنصف وناس فقرة تحت عنوان “الشخصية التونسية واستراتيجية الحلول الفردية” (ص103 إلى ص108) استنتج خلالها أن السلوك الشائع لدى التونسي هو تغليب الاختيار الفردي عند كل مشكلة. وأرجع ذلك إلى عدة عوامل منها ضعف ثقافة المؤسسة وغياب الدّيمقراطية وعدم تغليب روح الحل الجماعي.
هذه الفقرة تعرضت أيضا إلى ظاهرة الوساطة و ” الأكتاف ” في المجتمع ولماذا يلجأ إليها التونسي لتصريف شؤونه. يقول الدكتور وناس: “تبرز الدراسة الميدانية في شقيها الكمي والكيفي هيمنة ما يمكن أن نسميه باستراتيجية الخلاص الفردي والبحث عن حلول غير مؤسساتية مثل استعمال رأس المال القرابي والقبلي واللجوء إلى الوساطات الشخصية والجهوية واستعمال طرق غير حداثية pre-modern means مثل الوساطة المحسوبية والمال والوجاهة، بدليل أن المنطوق الشعبي اليومي يكتظ بعبارات تحرض على الوسائط غير المشروعة والسلوكيات الاستعجالية لحل المشاكل مثل:
عندكش واسطة (هل تعرف شخصا متنفذا؟).
عندكش معارف في الوزارة (ما هي واسطتك في صلب الوزارة؟).
عندكش كتاف (هل تعرف أفرادًا متنفذين؟).
تعرفش اشكون في الإدارة (من هم معارفك؟).
إلي اكتافو اسخان ما ايخاف (لا حزن على المدعوم).
اكتافو سخان (شخص مدعوم).
سلكها تسلك (تدبر أمرك كيفما اتفق).
ففي مواجهة الصعوبات والأزمات، فان كل فرد ينتقي الاستراتيجية الملائمة لحاجياته وانتظاراته، ولكن السلوك الشائع هو تغليب الاختيار الفردي عند كل مشكلة، الأمر الذي تؤكده النسب الإحصائية التي توصلنا إلى بنائها بدليل أن 56% من العينة تفضل حلولا فردية للمشاكل والأزمات بغض النظر، إن كانت كبيرة أم صغيرة. ولعل ذلك ما يشير إلى مشكلة سياسية تتحدد في نوعية الثقافة السياسية السائدة وتمثلات المواطنة وكيفية عيشها في الحياة اليومية. وعلى النقيض من ذلك، فان نسبة 20% من العينة تفضل المواجهة عبر المؤسسات بغض النظر عن نتائج مثل هذه المواجهة الأمر الذي يؤكد بأننا إزاء شخصية تهربية والتفافية. فمثل هذه الصفة النفسية والسوسيولوجية تؤكد مرة أخرى، ما أسلفنا قوله، من أن هذه الشخصية منجحرة cautioux and introvert personality بالأساس ولا تواجه المشاكل بطريقة مباشرة، الأمر الذي يساعد، ولو جزئيا، على فهم ظاهرتين اجتماعيتين مهمتين: اللجوء المكثف إلى الوساطة واستعمالها في فضاء كل الشؤون اليومية تقريبا وتصريف الحياة واستعمال الشتيمة بدل الحوار.
إن ما يوجد بين اعتماد الوساطة والمحسوبية أسلوبا في الحياة، وبين اللجوء إلى الشتيمة في مواجهة الخصم هو أنهما يعبران عن رفض المواجهة بدل المحاورة وتفضيل أسلوب الالتفاف على الصعوبات والمشاكل والتنازل عن ممارسة الحق، أو قل عدم الوصول إليه بطريقة قانونية ومؤسساتية مشروعة. وهما يعبران كذلك عن شخصية لا تفضل على الأرجح ممارسة المواطنة بشكل واضح ومشروع وتلجأ إلى استراتيجية السلوك الالتفافي roundabout behavior والتوسط، وحتى التحايل من أجل قضاء أبسط الشؤون اليومية.
إن مثل هذا السلوك قد يفسر بعدم مرونة الإدارة وعدم وضوح كيفية عمل آلياتها، ولكنه إزاء مثل هذه الوضعية، تتباين الاستراتيجيات وتختلف من فرد إلى آخر. فثمة من سيلجأ إلى الآلية القانونية والمؤسساتية، ولكن ثمة من يفضل اللجوء – وهو السلوك الغالب فيما يبدو في المجتمع التونسي – إلى الاتكال على الآخر والاحتماء به واعتماد الوساطة الشخصية والعائلية، وحتى السياسية أي إعادة إحياء الرساميل العلائقية ما قبل الحداثية وتوظيفها حسب منطق النفع.
وهي وضعية تترجم كذلك غياب رأسمال من الثقة بين الفرد والمؤسسة من جهة، وعدم وجود عقد توضيحي لطبيعة العلاقة بينهما، وعدم تقديس الاقتدار the merit من جهة أخرى. فبدل البحث عن حل من داخل الحي السكني أو النقابة أو الجمعية أو الحزب أو البرلمان، فانه يتم اللجوء مباشرة إلى الواسطة. فيتم بذلك إحياء الهياكل التقليدية الرمزية وتوظيفها في استراتيجية الاحتماء بالآخر والاعتماد عليه في مواجهة الصعوبات.
إن هذه المفارقة الثقافية قائمة على الرغم من وجود هياكل تعبير حداثية بغض النظر عن درجة نجاعته. ولعل ذلك ما يؤكد أمرين متلازمين:
أ – شخصنة الصعوبات والمشاكل الاجتماعية واعتماد الحلول الفردانية في مواجهتها وفي التعامل مع الإدارة ومع الهياكل القائمة.
ب – ضعف ثقافة المؤسسة وغياب الديمقراطية وعدم تغليب روح الحل الجماعي بدل البحث عن الحق القانوني والضمانة المؤسسية. ومن شأن هذا السلوك أن يشجع ظواهر اجتماعية مكملة مثل الزبونية والمحسوبية والجهوية وأن يعمل على إعادة إنتاجها بغض النظر عن اللبوس الذي تتخذه.
إنّ إحياء الهياكل التقليدية وتوظيفها، عن قصد، في تصريف الحياة اليومية دليل ينضاف إلى أدلة أخرى على أن الأمر يتعلق بعدم استيعاب المستلزمات الحداثية من جهة، وبتكتيك توظيفي ونفق آني وليس بقناعة راسخة من جهة أخرى. ذلك أن البنيات التقليدية، بكل أنواعها، تعرضت الى نوع من التفكيك المنظم في إطار سياسة تحديثية قوية ولكنها حافظت، في مقابل ذلك، على وجود رمزي ونفعي في الآن نفسه يتم توظيفه حسب السياقات والانتظارات.
ومثل هذا الأمر يؤكد أن العلاقة بين الفرد والإدارة غير مؤسسية وأن العلاقات السياسية ما تزال غير تعاقدية. وهو وضع ينعكس على العلاقات الاجتماعية والإنسانية. فالشخصية الشتامة لا تواجه ولا تحاور وتفاوض، ولكنها تعمد إلى تشويه الخصم المختلف معه وإلى محاولة الإساءة إليه “وتدميره” ولو رمزيا، بدل المحاورة وتطويق الخلاف والبحث عن قنوات حوارية تستبعد التوتّر وتعمل على إزالة جذوره.
فمثل هذا التدمير عن بعد يدل على نوع من الشّخصية التفافية التي لا تواجه مباشرة ولكنها تلتف على المشكلة. ومن شأن هذه السلوكيات أن تفسر، ولو جزئيا، هيمنة الإشاعات في كل المستويات بما في ذلك أرقى المؤسسات ألا وهي الجامعة. فالإشاعة هي ظاهرة اجتماعية ناتجة عن غياب الحريات من جهة والاعتماد على تنشئة ليست بالضرورة مبنية بناء ديمقراطيا من جهة أخرى.
فالعملية التعليمية تتوفر على جانب تسلطي أكيد الأمر الذي لا يساعد على تعميق تقليد الحوار. فالإشاعة تعبير عن الغموض الذي يشوب المجتمع وعدم شفافية المعلومة داخله، فيلجأ الأفراد إلى محاولة إكساب معلوماتهم، حتى وان كانت خاطئة نوعا من المصداقية:
ما ثما شي دخان بلا نار (لا دخان إلا في حالة إيقاد النار).
ما اتقول طق إلا ما فيها شق.
ولذلك يعمل مروجو الإشاعات على توفير المعلومة – الخاطئة أو الصائبة – حتى وان كانت منعدمة. ولكن ذلك دال على أن المفارقة الثقافية الأعمق تكمن في عدم توطين مسائل مثل المواطنة وثقافة المؤسسة في التنشئة الأسرية والمدرسية والاجتماعية. وقس على ذلك مسألة قداسة الجهد. وهي سلوكيات تمس جوهر النظام الاجتماعي والقيمي في المجتمع.
المصــدر: صحيفة “الوطن” ، العدد 165.