إنّي لمغتبط أن أُدعى من قبل نادي إتحاد الطّلاب، لأحَاضركُم في موضوع قد يجدي وقد يُفيد، وهو موضوع مطالع الحَضارة في الشّرق. فهذا الموضوع خطير والبحثُ فيه يستلزم جهدًا ونظرًا بعيدًا وفكرًا صائبًا، وهيهات أن ينال ذلك جهد مقلّ مثلي.
إنّ الحضارة ليست عملٍ قوم من الأقوام، أو جهد جيل من الأجيال، بل هي عملُ البشريّة قاطبةً منذ وجد الإنسان، وسَتبقى ما بقي الإنسان. ولقد عرفتِ الحَضارة منذ تاريخ البَشر، فإذا نَسبناها إلى قوم فإنّما ننسبُها إليهم مجازًا لا على التّحقيق. فالحضارة العربيّة مثلاً ليست من عمل العرب وحدهُم، وكذلك الحضارة الغربيّة ليست من عمل الغربيّين وحدهم، بل هي نسيج جُهود البَشر وثمار القَرائح والزّمن والحياة، وليست الحضارةُ جهدًا خاصّا بل هي بنت الحاجة ووليدة المصلحة.
لا أريدُ أن أبحث في آراء الكُتّاب والمتخصّصين في هذا الموضوع، وإنّما أتكلّم الآن على اختباراتي الخَاصة في مختلف الأقطار، فلقد زُرت الهند والجاوى وشَمال إفريقيا والعِراق وأكثر بلاد العرب وأقَاليم كثيرة من أوربّة، وعاصرتُ ضروبًا كثيرةً من الحضارات. وإنّي أقول إنّ الحَضارة لم تُوجد عفوًا ومن غير حاجة، بل لم تُوجد على أيّ شكل من أشكالها في قطرٍ ما إلا بحسب حاجة ذلك القطر لا أكثر ولا أقل.
ولقد حاولنا نحنُ منذ قرن ونصف أن نحتضن الحضارة الغربيّة، فأرسلنا أبناءنا ليتعلّموا في مدارس الغربِ، ولكنهم انقلبوا إلينا بآراء غير نَاضجةٍ لم تجد محلاّ في أدمغتنا ومُجتمعاتِنا، وليس هذا لأنّ الحَضارة الغربية لا تنطبق على أساليبِنا، بل لأنّ حاجتنا لا تتلاءم مع هذا النّوع من الحضارة، ولكن متى هيئت لنا الحاجة شيئًا وقضت به المصلحة، فإنّا نأتي به قسرًا لا آدابنا تصدّنا، ولا شرائعنا تردّنا، ولا القوانين تحول بيننا وبين ما نُريد أخذه منها.
فلنبحث الآن في حاجات الأمم قبل البَحث في الحضارة نفسها: لنا اليوم مَطالب كثيرةٌ، فنرى مثلاً مجتمعنا غير متكاملٍ فنسعى إلى تكميله بالقياس إلى الغرب، إذ نرى الأمم الغربيّة لها تشكيلاتها ونظمها فنزيد أن نُحاكيها وأن نقبس منها حذو القذة بالقذة بدون مراعاة القابليّة والحاجة. وهنا موقع الخَطر وهنا مضلة الأفكار والأفهام، وأكبر أسباب الارتباك.
فإذا لم تكن الحَاجة فينا باعثةً على اقتباس ما هو صالحٌ لنا فيستحيل أن توجد فينا القابليّة للاقتباس. إنّكم تجدون كثيرين من الكُتّاب ينتقدون حالنا الاجتماعية، وعدم وجود المرأة بجانب الرّجل بصورة ينتفي معها الشّذوذ ويتكوّن الأدب الراقي، فيُطالبون بتحرير المرأة وبالسّفور. إنّ هذه المطالب لا يتنازع فيها اثنان منطقيًّا وأدبيّا، ولكنّا إذا أخرجنا المرأة من خدرتها وأتينا بها إلى هنا فإنّها لا تقبل ذلك مع اعتقادها واعتقاد الرّجل أنّها قد تكون محرومةً أو مظلومةً. وليس هذا الامتناع لنقصٍ في مداركها ولفساد المُجتمع، بل لأنّ الحَاجة لم توجد، فلو دعت الحاجة إلى رفع الحِجاب ووجود المرأة بجانب الرّجل لما تأخّرت عن ذلك أبدًا. (1)
* إن الأدب وشكل الحياة والميراث والحال الرّوحية كوّنت لنا الجَوّ الذي نعيش فيه، وليس كلّ نظرة منطقيّة أو فلسفيّة، أو رأي أدبي يكفي أن يصوّر لنا الوَاجب، فيوم ندرك نحن أو تدرك المرأة أنّ من واجبها السّفور فإنها تسفر ضدّ الشرائع وضدّ كلّ شيء، ولكنّها إذ لم تدرك ذلك تظلّ أثبت من الدّهر في المحافظة على التّقاليد.
لقد كنّا نظن أنّ مجرد التّعليم وإنشاء المدارس يغيّر عقليتنا. ولقد عانت تُركيا إنشاء المدارس منذ نحو قرن ونصفٍ، كما عانته مصر منذ عهد محمد علي، وكما عانيناه في شمال إفريقية منذ ذلك العهد أو بعده بقليل، ومع ذلك فإنّنا نقول إنّ الثّقافة العلميّة غير موجودة في الشّرق العربي رغم انتشار المدارس وبذل الجهود العلميّة على اختلافها. فما الذي قعد بنا عن تقليد الأوروبيين والسير مسيرهم في هذه الحياة؟
ليس السّبب الجهل فإنّ عندنا طبقة لا تقل عن 8 إلى 15 في المائة هي من أرقى الطّبقات، ولا تقلّ في الكفاءة عن الطبقة الحاكمة في أوروبا، وفي إمكانها وضع التّشريع وتكييف النّظم الاجتماعية، وتأسيس أساليب الحياة على أرقى نمط. ولقد قلبنا نحن أنظمة حكوماتنا، وغيرنا شرائعنا، ولكنّنا لم نغير نفسيّة شعوبِنا لأنّ الحاجة التي تقتضي التّغيير لم تُوجد فينا.
هنا في الشّرق ممالك واسعة الأكناف مترامية الأطراف، فسكّانها يسرحون ويمرحون فيها ولا يحتاجون إلى جهود كبيرة، والفردُ فيها يجد الهناء والرّخاء وبسطة العيش دون أن يزاحمه مزاحم، فلا يحتاج إلى الجُهد والمواهب الكثيرة التي تضمن له الحياة.
ولكنّك تجد الغربي يكدّ في العمل ويقوم بواسطة فن الميكانيك بجهود العَشرات، ومع ذلك فوسائل الارتزاق لديه ليست موفورةً، تجد تدابيره ومساعيه كلّها تدفعه إلى توفير الجهود بعكسها نحن. وقد أصبح جهد الرّجل فيهم لا يكفي، ولا بد من اقترانه بجهد المرأة واشتراكها معه في العمل، وأصبحت الأرض تضيق بسكّانها والنّسبة الكيلومترية غير كافية، وقام الجهد مقام النّسبة الكيلومترية.
فإذا صارت بلادنا مزدحمةً بالسّكان فإنّ تفكيرنا وجهودنا بالطّبع لا تبقى على نمطها الحاضر، سواء كانت هناك مدارس وآداب أو لم تكن. فالحاجة إذن أكبر باعث على تكوين الانقلابات، والكَافل الوحيد للنّهضات البشريّة.
كثير من الأقوام نشأ على التّواكل وخصوصًا نحن العرب، فإنّنا ننتظر من الحُكومة أن تضع لنا كلّ شيءٍ وأن تهيئ لنا المدارس وتقوم لنا بكلّ حاجاتنا. مرّ علي دور من أدوار حياتي كدت أعتقدُ فيه أنّ الحُكومة شر لازم، ولكنّي لما ذهبت إلى الهند ودرست وضعيّة هذه البلاد صرت أهزأ من اعتقادي هذا.
فالهندُ منقسمة إلى عناصر كثيرة، والحُكومة الانكليزية فيها لا تؤيد عنصرًا على آخر، وتركت الحكومة الميدان فسيحًا لتزاحم العناصر فيها. أترك الآن عنصر البنغال والكجرات واكتفي بعنصر الأوردو أي مسلمي الهند أو سكان وسط الهند.
فهذا العنصر مكوّن في الأصل من جيش المغول أعقاب تيمورلنك السّفاح، فهؤلاء لما فتحوا الهند وتوطّنوها شكّلوا دولةً لهم واتخذوا جُندهم خليطًا من أتراك وفرس وأفغان وتركمان وسمّوه (أردُو) أي الجُيش، وهذا الخليط كان يتكلّم بلغات مختلفةٍ. أمّا اللّغة الأصيلة فكانت (البشتُو) وهي المتفرّعة عن السنسكريتيّة. فالجيشُ الفَاتح كوّن له لهجةً خاصة، وكذلك أثّر في المتكلمين بلسان البَشتُو، فتكوّن من هذا لهجة جديدة، ومن ثمّ وجد لسان يُسمى (الأوردو). وهذه الحُكومة انقرضت بعد حُكم نحو ثلاثة قرون، ولم يكن يُوجد مدّة حكمها شيء من الأدب باللّغة الأورديّة لأنّها كانت تقريبًا كاللّهجات العامّية في مصر وفلسطين.
ولكن بعد اِحتلال الانكليز وحداد باء في هذا اللسان، وأوّل ما كتبوا فيه كان مراثي الشّيعة للحسين عليه السلام، ثم تَرجمُوا بعده قصة المولد النّبوي، ثم وُجد أدباء وكتّاب يقولون الشّعر ويكتبون بالأوردو في لانكو ودهلي. وبعد مائة وخمسين سنة أصبح هذا اللّسان من أرقى ألسنة التمدّن. ومن الغريب أنّ اللّغة العربية أم اللّغات التي تشتمل على 80 ألف مادّة جمعها لسان العرب، عدا التي لم يستطع جمعَها وهي شيءٌ كثيرٌ، هذه اللغة قد نمرّ بفنون وأشياء كثيرة ليس لها مصطلحات عندنا بعكس لغة الأوردو التي تُنقل إليها اليوم كلّ المؤلفات الحديثة. وعندهم علم يسمونه (علم العَواطف) أو (فلسفة الجَذبات)، ولم يبق فنّ من الفنون التي تدرس في الجامعات الأوروبية الرّاقية إلاّ وهو منقول إلى الأوردو. وقد كوّنوا لهم عدة جامعات و (دار النّدوة) و (دار المصنّفين) وغير هذه شيئًا كثيرًا من وسائل ترقية اللّغة والآداب.
والفرد عندهم يتّكل على مواهبه ولا يتّكل على الحكومة، وبهذا تكونت لغة الأوردو التي هي لغة العناصر الراقية في الهند وتأتي بعد الانكليزية. ويوم يستقلّ الهند ستكون لغته الأورديّة. وتُوجد اليوم في حيدر آباد الجامعة العثمانيّة، وقد قرّرت حكومة حيدر آباد جعل لغة التّدريس فيها الأورديّة. فهذه العناية الفرديّة جاءت بداعي الحَاجة والمصلحة، وهي ليست عناية حكومة. وكذلك الحركة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الخَارقة للعادة في الهند، إنّما تدفع إليها الحاجة.
أما نحنُ فإنّنا نشتهي الاستقلال والمجد والعظمةَ، ونتغنّى بمجدنا القَديم ولكنّ الحاجة لا تدفعنا إلاّ للعمل لسدّ حاجة بطوننا لا غير، ولو كانت الحاجة تدفعُنا لطلب المستحيل لأوجدنَاهُ. لقد قال نابليون إنّه لا توجد كلمة مستحيل في قاموس اللّغة الفرنسيّة. والمستحيل هو المطلب الذي تتقاصرُ عنه همّة الإنسان.
إنّ الحضارة أو المدنيّة ليست شيئا صعبًا، بل هي وليدة الحاجة وبنت المصلحة. وإنكم لترون أنّنا كثيرًا ما نضع باختيارنا بعض نُظمنا الاجتماعيّة ضدّ تقاليدنا لأنّنا نعتقد أن الحاجة تفرضها عليها. إنّه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تصدم الحَاجة في نفس الإنسان. نريد الاستقلال ولكن قبل أن نريده علينا أن نفكّر إذا كانت فينا حاجة إليه. إنّ الاستقلال، والمجد، والحق، والعدل … كلّها معاني جميلة، ولكنّ جمالها جمال مُبهم وتحقّقه يكون في الحاجة والمصلحة لا أكثر ولا أقل. وإذا كان اختيارنا ناقصًا فكلّ ما نريده من المطالب يظلّ أوهامًا وألا عيب أطفال.
كل الأمم تريد البَقاء وحفظ الكِيان ومُصارعة غيرِها في الحياة، ولكن مقياس هذه المصارعة مختلف، فالأمّة الكثيرة العَدد صعب هضمها وخضد شَوكتِها بعكس الأمم القليلة العدد، القليلة الجهد والعلم، القَنوعة، فهذه الأمم إذا رُدّت إلى أي شيء فإنّها تقنع به خصوصًا إذا كانت تربيتُها مبنيّة على القناعة والانهزام في ميدان الحَياة بعكس الأمم القوية الشّكيمة.
يُقال (القناعة كنزٌ لا يَفنى)، فهذه القاعدة إنّما جُعلت لأجل صرف النّاس عن الطّمع عمّا في أيدي النّاس، ولكن القناعة بمعنى القُعود في الهمم، والتّواكل لا تُوجد إلاّ في الأدمغة الممسوخة، ويصير معنى القناعة عند ذي العقل الضّعيف بلاءً عظيمًا لأنّه لا يستطيع هضم معناهَا وتفهّم حِكمتها.
من الخطأ أن نعتبَ على الشّرائع أو الآداب أو النّظم الاجتماعيّة، لأنّ هذه إنما تُوجد بحسب حياة الإنسان وحاجته، فإذا لم يشعر الإنسان بالحاجة يظلّ متسكّعًا في ماضيه وحاضره ومستقبله. يقول أُناسٌ: لقد أردانا دينُنا، ويقول آخرون : لقد أخّرتنا سياستنا، وآخرون يحلّلون أمراض المجتمع تحليلا ما أنزل الله به من سُلطان.
الشرائع أمر معنويّ مطاط يكيّفها الإنسان وفق حَاجته، وهي تدعو الإنسان إلى العَدل والكمال، والعدل ليس مادة، ولكنه يتكيّف بالأدمغة حسب استعدادها. وكذلك الحضارة والجَمال والمدنيّة، فهذه كلّها معان تتكيّف بحسب شعور الإنسان وتصوّره. فإذا كانت عٌقولنا قاصرة فالعَيب علينا وليس على الآداب والشّرائع، بل العيبُ على الذين صوّرُوها لنا بغير صُورتها وأفهمونا إياها بغير حَقيقتِها.
إنّ المنطق إذا فسَد، والفلسفةُ إذا أسيء استعمالُها، لا يُوصلان إلا إلى هذه النّتائج، وكذلك تفاسيرُنا للأشياء، فإنّا نفسرها بحسب شعورنا والطّريقة التي هضمتها بها نُفوسنا (وهنا ضرب الأستاذ مثلاً الرّجل الذي يتناول الطّعام بإفراط فيمرض لا من الطّعام، ولكن من سوء الاستعمال).
فإذا أردنا أن ندرس الشّعوب والحضارات، ونظم الوجود فلندرسها درسًا صحيحًا، وليس كشهوة من الشّهوات. فلا يجب أن تأخذ نظم انكلترا وألمانيا ونطبّقها في العراق أو فلسطين، بل يجب أن ننظر إلى الحَاجة وقابليّة الشّعب، فإذا أمكننا أن نُقارن بين الحاجة والمصلحة أمكننا أن نقلب هذا المجتمع. فالحضارةُ العربيّة قبل قرون بلغت أقصى مداها ولكنّا وقفنا عند هذا الحدّ، وجاءت أقوام أخذت حضارتنا وزادت عليها وسَارت في سلّم الارتقاء، أما نحن فبدلاً من أن نسير معها وقفنا، فكان طبيعيّا أن نأخذ بالانحطاط.
أنظروا إلى الغربيّين، فقد كوّنوا المعدوم وقلبوا وجه الأرض. إنّ اختراع الطيارة واللاّسلكي كان عن حاجة ولم يكن لمجرد اللّهو أو التّسلية. ولقد أحدقت بنا كواسِر أجنبيّة من كل جانب، وهذا التّزاحم والتّدافع الغربي صار يطوّرنا شئنا أم أبينا، وقد يؤجر المرء رغم أنفه، فغيرنا شكّل منازلنا وملابسنا وتعلِيمَنا، وقد أصبحت الحيرة وقوة التّفكير تفتق لنا وجوه الحِيلة لأنّ الأمم المتأخّرة تصير تسابق المتقدّمة إذا شعرت بالحاجة.
فنحن إذا درسنا هذا الوضع، واستخرجنا منه المثل الأعلى نعود لا نحتمل هذا الضّيم الذي نحتملُه الآن. فإذا استطعنا تحويل هذه الفكرة إلى مبادئ عمليّة فحينئذ تتولد فينا قوّة العمل والصّلابة. وإنّ الأمم مهما كانت ذليلةً لا تَرضى بالدّون من العيش، ولكنّ منشأ الرضا هو تغليط الحسّ، فتعيش الأمم الذّليلة غلطانة، ولكن الغلط لا يدُوم. قد يمكن أن أغلط أنا ولكن ابني لا يغلط. وإنّني أبشّركم بأنّ هذه الحالة لا تدُوم مهما استشرت أسبابُ المرض.
لماذا لا نسعى من تلقاء أنفسِنا إلى درس هذا الموضوع كما نُريد، لا كما تريد الصّدف. فالأمم المجيدة ترسُم لنفسها خُطّتها ولا تقبل أن يَرسمها لها غيرُها، ومن العارِ علينا أن نسلك سبيل الحَياة كما يُريدها لنا غيرُنا. لا كما نريدها نحن.
المصدر:
صحيفة “الجامعة العربيّة”، 3 ربيع الأول سنة 1349/ 29 جويلية 1930م