بقلم: منير البولاهمي
كان فتى مختلفًا عن بقيّة الفتيان في القرية، حسّاسا إلى أبعد الحدود، يعشق الطّبيعة، ويقدّس الجمال. ربّما يعود ذلك إلى أنّه ولد في فصل الرّبيع وربّما إلى ما تميّزت به شخصيّته من حساسيّة مفرطة، وربّما إلى أنّ آفته الّتي ابتلي بها منذ نعومته جعلته يتعامل مع الحياة بعينيه أكثر من تعامله معها بأذنيه.
كان كلّ شيء في قريته الصّغيرة يبدو لمرأى عينيه الصّغيرتين جميلاً وساحرًا، الجبال المحيطة بالقرية، السّهول المترامية هنا وهناك، الوديان، السّدود، البَساتين المشجّرة، كروما وتفاحًا وجوزًا ورمّانا وغيرها.
كانت القرية جنّة إنسانيّة، كلّ أهالي القرية طيّبون إلاّ الذّين كانوا يؤذونه في صباه ويجعلون من آفته موضوع سخرية وتفكّه ومزاح، هؤلاء فقط هم السيّئون، كان يخيّر الانعزال على الاختلاط بهم بل كان مجبرًا على الهرب منهم، كانت الحياة بالنّسبة إليه صورًا جميلةً عجيبةً، صورا جامدةً وأخرى متحرّكة، صورًا ناطقة وأخرى صامتةً.
لقد جرّب حياة الصّمت المطلق وجرّب الصّمت النّسبي، وهاهو اليوم يجرّب حياة الضّجيج فيحنّ إلى حياة العزلة والانعزال والصّمت، ويودّ لو أنّه لم يسمع صوت العَصافير في الغابة ولا صوت الصّراصير في اللّيل ولا نقيق الضّفادع في الغدير ولا خرير الماء في الوديان ولا أصوات الحيوانات الزّاحفة أو الماشية على اثنين أو على أربع، ولا لغو البشر . كان يودّ لو بقيت الحياة كما رآها في أوّل استفحال آفته صورًا جامدةً أو متحرّكة تتلوّن وتكبر وتتحرّك وتموت، على أن لا تضجّ، على أن لا تنطق صوتًا …
هكذا كانت حياة ضمير الدّخلاوي معقّدة تعقّد الحياة حوله، فكان عبارةً عن كتلة انفعالات غير مستقرّة يشوبها الاضطراب والقلق والانفعال… كان ذات يوم يجلس قبالتي مع ثلاثة من أصدقائنا وهم نذير ومراد وصبري على مقاعد إحدى المقاهي القريبة من محطّة القطار يتناول قهوة الصّباح، وكان نذير يردّد كلمات الأغنية الّتي تقول:” مسافرٌ زاده الخَيال” بصوت في نبراته نشاز قبيح، مستغلاّ الصّمت المخيّم على طاولتنا برهة من الزّمن فأطلق صوته ليخترق هذا الصّمت، لكنّ أحد أصدقائنا نهره وطلب منه أن يصمت قائلا:”اُصمت يَا نذير “فإنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير” فما كان من ضمير إلاّ أن اِنفجر ضاحكًا ثمّ استأذن ليذهب بعد أن سحب من جيبه قطعة نقديّة وضعها على الطّاولة وانصرف…! فبقينا في حالة ذهول ودهشةٍ واستغراب…
لقد كان ضمير الدّخلاوي غريبًا في تصرّفاته، عجيبًا في مواقفه لكنّه كان اليوم أغرب من ذي قبل. لقد كان ضمير صديق شبيبتنا نحن الثلاثة منذ أن جمعتنا الأيّام به ونحن نكتشف فيه كلّ يوم شيئا غريبا، منذ تعرفنا إليه ونحن نتعلّم منه دون أن يلقنّنا. لقد كنّا نهابه دائما ونحرص على أن لا نجرح شعوره وإحساسه المفـــــرط في التوتّر والانفعال.
تركنا ضمير إذن وانصرف دون أن ينتظر ردّ فعلنا، ودون أن نأذن له بالذّهاب ودون أن نترجّاه. تركنا وترك الورقة البيضاء الّتي نظم قصيدته الّتي قرأها علينا على الطّاولة ربّما نسيها وربّما تركها عن قصد، تركنا وانصرف كعادته..
لقد كنّا نتركه على راحته لأنّنا كنّا نعلم من أمره ما لم يكن يعلمه غيرنا، لأنّنا أحببناه بصدق أو ربّما لأنّه أحبّنا بصدق وجعلنا نحبّه بصدق، لذلك لم يجرؤ أحد منّا وقد تركنا في ذهول أن يعلّق على سلوكه، أن يذكره في غيبته بخير أو بشرّ، أن يستفسر عن سبب ذهابه المفاجئ. لقد اكتفى كلّ منّا بالنّظر إلى صاحبه نظرة من يقول لصديقه لا ينبغي لنا أن نلومه، لا ينبغي لنا أن نغتابه، هذا هو ضمير ولا ينبغي لنا اليوم أن ننكره بعد أن قبلناه كما هو…
لم يكن لنا من موجب للجلوس على تلك الطّاولة، لقد كان ضمير هو الذّي يجمعنا وهو الذّي يفرّقنا، كنت أنا ونذير وصبري نلتقي في الصّباح، لم يكن يحلو لنا الجلوس في المقهى بدونه، لقد جرّبنا ذلك مرارًا، فكان الواحد منّا لا يجد الكلام أو لا يجد مفاتيح الكلام لتنعقد بذلك الجلسة ويتواصل كلّ واحد منّا مع الآخر، لذلك كنّا نتصل به في البيت عبر الهاتف ونعلمه أنّنا ننتظره في المقهى. كان يمتلك قدرة عجيبة على إثارة المواضيع الّتي تمسّ كلّ واحد منّا، إنّه يجيء دائما ليقرأنا ويقرأ نفسه علينا ثمّ يتركنا ويغيب.
تركنا المقهى ورافقني نذير وصبري إلى المنزل، هناك بقينا نستعرض بعض ما بقي في ذاكرتنا من حديث ضمير الدّخلاوي ومن شعره الّذي ألقاه على مسامعنا قبل أن يفاجئنا بالرّحيل. لا شكّ أنّه قد عاد إلى بيته أو كما يحلو له أن يسمّيه إلى برجه العاجيّ ولا شكّ أنّه قد عاد إلى صمته. أخذ صبري الورقة وطفق يقرأ قصيدة ضمير الجديدة بيتا بيتا، وكنّا في كلّ مرّة نطلب منه إعادة قراءة بيت من الأبيات أو صدر بيت أو عجز إمّا استحسانا وإمّا رغبة في الاستمتاع بما فيه من معنى، وهكذا استطعنا أن نقرأ كلّ الأبيات وكأنّنا نقولها لأوّل مرّة، وكأنّه أوحى بها إلينا وكأنّه يقرأها علينا، “عاشق متعقّل” عنوانها وأربعة عشر عدد أبياتها.
عاشق متعقّل
– كزهر بأقصى الأرض ينمو ويذبل يموت غريبا من الحبّ أعزل
– أقلّي علــــــــي اللّوم يا ابنة مهجتي فإنّـــي بـــداء ثمّ بالـــــحزن مثقل
– هواتف نفسي يـــــا رغائب منيتي رويدك إنّــــي عــــاشــــق متعقّل
– لئن كـــــــــان لي أن أنفذ اليوم فاتحا من الصّمت أقطــــارا تكــاد تخيّل
– فإنّــــي بسلطــان نعمت ببعضها وإنّـــي علــى باقي الرّغائب مقبل
– لقد كـــانت الدّنيا بعينـــي جميلة وقــد كــــان فـــي أذنيّ وقر مذيّل
– إلى أن ترامى للمسامع سمعهــــا وأصبحــــت من كلّ الورى أتململ
- تأكّدت أن القلب يعشق ملاكـــا كـــبرق السّحـــــاب بالسّنى يتعجّل
– وأنّ العيـــــــــون في الهوى تتخدّر وتعجب من سحر الجمال وتذهل
– فكم قدّست عيني اللّواتي سحرنها على البعـــد لكـــن قربهنّ مضلّل
– وكم من عروس زيّنوها وأحسنوا ولـــكنّ عيب الـــــرّوح لا يتجمّل
– تعبت من الترحال من سفر الونى أفتّش عن ذاك المـــلاك وأســــأل
– فيــــــا ليتها اللّقيــــا تـــكون قريبة ويا ليـــت قلبي مــــن غرامه ينهل
– ويا ليت شمس الفجر تشرق مرّة على القلب بالحبّ فتعطي وتجزل
قرأ صبري هذه القصيدة قراءة مؤثّرة مقلّدا في قراءتها الشجيّة صوت صديقنا ضمير الدّخلاوي. كان صبري بارعًا في تقليده، لقد عرف بتقليده الدّقيق للأساتذة الّذين يدرّسوننا في المعهد، وكذلك الذّين يدرّسوننا في الجامعة، ومنذ تخرّجنا من الجامعة وصبري هو الّذي يذكّرنا بكلّ حكايات الأساتذة وبكلّ النوادر الّتي عشناها معهم. وكم كانت هذه الذّكريات ممتعة وكم كان ذلك يبهجنا ويسعدنا. لقد صرنا نعيش اليوم على وقع تلك الذكريات الجميلة من خلال تقليد صبري لبعض الأصوات، ومن خلال تمثيله لبعض المواقف الهزليّة. وبالرغم ممّا فيها من قسوة وغرور فقد كان ذلك يضحكنا كثيرا عندما يذكّرنا بها صبري. نمتعض ونأسف ونلوم ونسخر ونشتم ونقول في هذا كلامًا، ونقول في ذاك كلاما، ونثني على هذا ونشكره، ونعيب على ذاك ونعذره…
كان هذا دأبنا دائما، مثلما هو دأب جميع النّاس في المدينة، عندما ينتهي الكلام عن حاضر أيّامنا، ذلك الكلام القصير المختزل ذلك الكلام المليء بالشكوى والتبرّم، الحاضر مرّ، المعيشة صعبة، الإمكانيات محدودة، هذه الفتاة وهذه المرأة بهما، وذاك الشّاب وذلك الرّجل عليهما، حديث الحاضر مرّ، لذلك كان سرعان ما ينتهي، سرعان ما يختزل وكأنّنا نفرّ منه إلى حديث آخرـ كأن نتحدّث عن لحظات ماضيه، عن مواقف حدثت وبقيت صورتها عالقة بالأذهان، عن وقائع مذهلة وقعت من زمن بعيد أو من زمن قريب.
الجرائم كثيرة، والوقائع فضيعة، وهذا العالم يرهقه الإنسان وهذه الأرض تسفك فيها الدّماء، وتلك السّماء تغسل التراب تطهّر الشّعاب، تعتصر السّحاب، ترمّم الخراب، والجرائم لا تنتهي.
كان هذا دأبنا دائما، يلتقي الرّجل بالرّجل، ويلتقي الرّجال بالرّجال وتلتقي المرأة بالمرأة، وتلتقي النّساء بالنّساء، ويلتقي الفتيان والفتيات، ويلتقي الرّجال والنّساء، يتكلّمون في كلّ شيء؛ في السّياسة في الرياضة، في الثقافة، في الحياة، في العالم، في البيع والشّراء، في السرّاء والضرّاء، يتكلّمون ويأكلون وينامون…
كان هذا دأبهم، وكان هذا دأبنا، الحياة مليئة بالكلام ولولا الكلام لانكدر في الكون الظّلام.
كنّا بصدد الجلوس في فناء الدّار عندما قال صبري متنهّدا، وهو يعتدل في جلسته: تعرفان، إنّ صديقنا ضمير الدّخلاوي قد لخّص في هذه القصيدة حياته، لخّصها بشكل دقيق، لخّصها وأبرز موقفه منها، الإنسان الأعزل من عاطفة الحبّ يعيش غريبًا مثل زهر ينبت في أقصى الأرض، لا أحد يهتمّ به، لا أحد يقول له إنّك جميل، لا أحد يشعره بوجوده، لا أحد يستفيد منه، ولا يستفيد هو من أحد، صدق والله ضمير…
قال هذا بينما كنّا نجلس على مقاعدنا، قال هذا وكان يريد أن يقول شيئا آخر إلاّ أنّ نذير قطع كلامه متسائلا: هل يعني هذا أن سبب شعوره بالغربة يعود أساسًا إلى فشله في تجربة الحبّ، إلى عدم توفّقه في إيجاد الفتاة الملائمة له، المتجاوبة معه، إلى عدم توفقه في اختيار المرأة الّتي يبحث عنها، هذه المرأة الّتي يسمّيها مرّة شهرزاد ومرّة وطفاء ومرّة زرقاء اليمامة. لا لا أظنّ هذا ! إنّ نظرته الشّرقيّة المحتشمة هي السّبب، إنّه ينظر إلى المرأة على أساس أنّها روح سامية، منزهة نقيّة وطاهرة، كأنّه لا يعلم أنّها تدنّست منذ نزلت حوّاء إلى الأرض، منذ نزلت بعوراتها، منذ نزلت بشهواتها، منذ انتصبت جوارحها على جسمها كباعة الخضر والغلال على الطّرقات، كلّ يعرض بضاعته، وكلّ يشهرها ويمدحها ويغري النّاس بشرائها، يرفعون السّعر متى شاؤوا ويخفضونه متى أحبّوا وكأنّه لا يدري أنّ القبلة الواحدة في سوق القبل تباع بالمزاد العلني، في النّاس من يشتري القبلة بدينار، وفيهم من يشتريها بالآلاف، وكأنّه لا يعلم أنّ المرأة اليوم تمتهن صناعة الشّهوة تبيع القبل، وتبيع أشياء أخرى حتّى الرّوح الّتي يعتقد أنّها أصل الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة.
لقد حدّثته مائة مرّة في هذا ولكنّني وجدته أعرف منّي بهذا، ولقد قال لي يوما إنّ ما تقوله هو الواقع الّذي يعيشه النّاس، أمّا أنا فلست من النّاس، والمرأة الّتي تتحدّث عنها من النّاس، والمرأة الّتي أبحث عنها ليست من النّاس في شيء. لقد حدّثته في هذا فقلت له إنّك لن تجد هذه المرأة أبدًا لأنّ امرأة الغد هي ابنة امرأة اليوم، وامرأة اليوم ابنة امرأة الأمس، وستُضيع امرأة الغد معناها وروحها كما أضاعتها امرأة اليوم، وأضاعتهما من قبلها امرأة الأمس. قلت له ذلك ولكنّني وجدته أبلغ منّي إذ قال لي ذات يوم : ” امرأة الأمس قد أخطأت، امرأة الأمس أضاعت روحها عندما أطاعت شهوتها، امرأة الأمس أمست وذرت وصيّتها، تقرأها الشّمس وتغنّيها العصافير ، يرتّلها القمر، وتردّدها النّجوم. حوّاء هي الرّسالة القدسيّة المكتوبة بحروف الزّمن على جبين كلّ امرأة هيفاء، لابدّ أن أجد المرأة الّتي قرأت وصيّة حوّاء قراءة صامتة، لابدّ أن أجد المرأة الّتي اكتشفت أنّ حوّاء لم تكن سوى درس قدسيّ كان لا بدّ أن تطبّقه حوّاء على نفسها.
حوّاء أضاعت معناها وأضاعت روحها عندما طبّقت درسها، عندما بلّغت رسالتها، حوّاء قالت لكلّ نساء العالم إنّ الشّهوة قاتلة، إنّ الشّهوة فانية، تخلط الأبيض بالأسود، وتجمع الجاهل بالعالم، إنّ الشّهوة هي العدوّ الأوّل للبشر في لحظة يمكن أن تغيّر العالم، يمكن أن تخرج الإنسان من الجنّة …
نعم قال هذا، ولكنّي إلى الآن أراه على خطإ وأراني إلى الآن على صواب. المرأة هي المرأة لا بدّ أنّه مخدوع، لقد كدت أصدّق قوله هذا في يوم من الأيّام عندما صحبت إلى بيتي إحداهنّ، كانت كلّ امرأة تتحدّث إليّ بلسان روحيّ بلسان الطّهر والعفاف والنقاء، نعم كان هذا يحدث في البداية لكنّها سرعان ما تنقاد في المرّات اللاّحقات عندما ترتفع الكلفة ويزول الحرج وتعبّر المرأة عن شعورها عن رغبتها عن شهوتها. إنّ المرأة في النّهاية هي شهوة مشبوبة لابدّ أنّ صديقنا ضمير قد خدعته إحداهنّ بكلامها هذا، وربّما أعجبه كلامهنّ عن الرّوح وعن الطّهر والعفّة فقرّر أن يتبنّاه منهجا وسبيلا في الحياة.
كنت أسمع هذا الكلام وأدركه تمام الإدراك، كنت أسمعه بجوارحي، ولكن سرعان ما أيقنت حقيقة كلام نذير ومراميه وغايته. كنت أعلم أنّ نذير يختلف عن ضمير في رؤيته للحياة في مفهومه للحبّ، في نظرته إلى المرأة، كنت أعلم أنّ نذير ينظر إلى المرأة على أساس أنّها لا تصلح إلاّ للفراش، وأنّ ضمير ينظر إليها على أساس أنّها الشّطر الّذي يجب على كلّ رجل أن يبحث عنه، وإلاّ فإنّه سيبقى مشطورًا، سيبقى تائها ضائعا لا يعرف حقيقة نفسه.
وفي الحقيقة كنت أميل إلى نظرة ضمير، وأتحامل على نذير، إلاّ أنّ صبري كان يميل إلى رأي نذير ولكنّه لم يتّخذه منهجًا في الحياة. لقد كان يقول دائما لا أترك الفرصة الّتي يتاح لي فيها اللّقاء بالمرأة تمرّ هكذا دون أن أغتنمها، فهو رجل الفرص كما يحلو له أن يسمّيَ نفسه، ولكنّه لا يسعى إلى إيقاع المرأة في شراكه، ولا يسعى إلى البحث عن الشّهوة، بل إنّه يذهلني عندما يقول إنّه يبحث عن المرأة الحلم، المرأة الّتي سيعيش معها بقيّة حياته، بل يذهلني أكثر عندما يتحدّث عن حبيبته حديث العاشق الولهان ثمّ أجده بعد ذلك يغتنم فرصة التقائه بامرأة أخرى كان يعرفها منذ زمن ويلتقي بها، ويمارس معها الحبّ في مكان ناء أو في مكان مظلم.
أذكر أنّه قال لي ذات يوم أنّه كان في طريقه ليلاً إلى بيته، وكان الفصل صيفا، وسكّان المدينة في هذا الفصل تعوّدوا أن يخرجوا بياتا للتمشّي هربا من حرارة البيوت وغطّها وطلبًا للبرودة واستنشاق الأنسام الباردة الّتي تنعدم داخل الدّيار عندما تفرز الجدران والسّقوف ما اختزنته من حرارة الشّمس وأسقفها طوال اليوم في المساء. ليلة بقيت مضرب أمثاله، وموطن افتخاره أمام أقرانه.
قال: كنت أسير مطرق الرّأس خجلاً من عيون نساء الحيّ الّتي كانت ترمقني إلى أن بلغت منطقة مظلمة تنطفئ فيها مصابيح الأعمدة الكهربائيّة دائما، وكلّما وقع إصلاحها تعمّد بعضهم كسرها لأنّهم أرادوا أن تكون تلك المنطقة المظلمة وكرًا للالتقاء بعشيقاتهم، كنت عندما أصل إلى تلك المنطقة أشعر بالرّاحة وأتنفّس الصّعداء وينتابني شعور آخر غير شعور الخجل الّذي ينتابني في المنطقة المضيئة، لكن بينما كان هذا الشّعور يسري في وجداني، ويستقرّ في أعماقي أحسست بيد تتأبطّني وتبعث في جسدي شعورًا بالخوف والفزع، قلت من؟ قال الصّوت: أنا. ساعتها فقط أبرق العقل إلى جميع الحواس أن لا خوف من هذا الصوت، حينها فقط أمكنني الكلام بعد أن أغمضت عيني وازدردت ريقي وأرسلت صوتا يشبه الهمس: فجعتني فجعك الله يا سعاد، من أين وقعت عليّ وقوع الصّاعقة قالت: رأيتك في المنطقة المضيئة فتبعتك إلى هنا، فقلت وماذا تريدين؟ قالت: نجدّد أيّامنا الماضية.
كانت سعاد هذه من بنات الحيّ، فقدت كلّ شيء منذ فترة مراهقتها، ولم تعد تخشى على نفسها من الرّجال فهي اليوم معروفة بعد أن علم النّاس جميعا أنّها فقدت ما تعتزّ به العذراء. لقد مرّت ثلاث سنوات على آخر التقاء لنا، في البداية لم أشأ أن أذهب معها، ولكنّها جرّتني إلى مكان بعيد مظلم لا تصله عيون النّاس ولا أشعّة الفوانيس، لقد وجدتها امرأة جريئة لا تتحرّج من فعل أيّ شيء لذلك حدث بيننا ما حدث بين رجل وامرأة متزوّجين…” أتذكّر هذه الواقعة فهي مازالت محفورة في ذاكرتي مثلما حكاها لي صاحبها. وأذكر أنّه عندما حكاها لنا لأوّل مرّة نهره ضمير الدّخلاوي واحتقره ونعته بالحيوان، وأذكر كذلك أنّ صبري قد غضب منه يومها ولم يكلّمه مدّة طويلة …
كنت أسمع كلام نذير بينما كان صبري يرتشف الشّاي، ولأوّل مرّة ينقلب في نظري هذان الصّديقان الحميمان إلى عدوّين لدودين، وجرفتني عاطفة غريبة نحو ضمير الدّخلاوي. نعم شعرت بالتعاطف معه، شعرت بالاحترام له، وشعرت بأنّه رجل عظيم حقّا، وأدركت لأوّل مرّة أنّ صاحبيَّ يحاولان منذ زمن بعيد تجريد ضمير من عرى العظمة، وينكرون عليه عذريته، وتمسّكه بعروة الحبّ الصّادق ويسخرون من اسمه وممّن سمّاه به،لا لشيء إلاّ لأنّه بقي أسيرًا لاسمه.
كنت معهما وكانت هذه الهواجس تساورني إلى درجة أنّني فكرت في صرفهما لكنّني لم أجد ساعتها مبرّرًا، كنت أشعر بالضّجر من مجالستهما وسماع حديثهما السّاخر. رفعت كأس الشّاي إلى فمي، وبينما كنت أهمّ بالترشّف رنّ جرس الهاتف فصعقت واضطرب الكأس في يدي، وضعته على الطّاولة واتجهت ناحية الهاتف ورفعت السّماعة فإذا هو ضمير الدّخلاوي يكلّمني وكان في لهجته حازمًا يخبرني بأنّه قرّر أن يقطع علاقته بنا قطعا نهائيّا ويرجوني أن أحترم قراره هذا، وأن لا نحاول العمل على إحراجه بمحاولة إعادة العلاقات… نعم هذا هو ضمير الدّخلاوي رجل طيّب وكريم ولكنّه لا يتراجع في قراراته مهما كان. وعدته بذلك ولكنّني رجوته أن يطمئنني عن أحواله من حين لآخر ولو عبر الهاتف فقال متنهدًا : إن شاء الله.