بقلم: نبيل الصّالحي
أحيانًا تتراكم على الفِيل الهَرم كمّيةٌ من المشاكل نَتيجة تَعرّضه لمطبّاتِ الحَياة وكثرَة الوَعْكاتِ الصّحية أو حادثة تتسبّب في جُرحه جُرحًا لا يَندمل، جرحٌ ينزف ليُعجّل بنهايته. يُحسّ الفيل أنّ نِهايته حتميّة لا مَحالة فيُجابهها بكلّ قُوّة وصبرٍ وإرادةٍ، ويبتسم ابتسامةَ الأقوياء، ابتسامةً صادقةً كلّها أملٌ رغم الألم.
يمرّ بفترة قوّة، فاستقرار، ثم بعد مُدّة تنهار قواه فيَتخلّف عن القطيع لأيّامٍ ثم بعد دنوّ أجله يشقّ طريقه وحيدًا نحو مقبرة الفِيَلة، ويخرجُ عن القِطيع في صمتٍ. لماذَا ؟ لأنّ الفِيل حسّاس جدًّا، ويملِك هيبةً تتجاوز هيبَة الأسود، ولأنّه لا يُريد أن يَراه الأصدقاءُ وهو يسقطُ.
كلمةٌ في غير مَحلّها أو نظرةُ شفقةٍ تَجرح الفيل القوّي وتَجعله يَتألّم حتّى النّهاية. لذلك يَخرجُ قبل حُدوث ذلك ويختار العُزلةَ والصّمت على نظراتٍ أو كَلماتٍ تطعنه وتزيدُه جرحًا على جُرُوحه.
لا أحد يَفهمُ خُرُوجه، ولا أحد يَتفهّم عُزلته، بل أحيانًا يَنعته بعض الأقرباء والأصدقاء ممّن يَعتبرُونه من الأعداء وما هُم بأعدَاء، يَنعتونه بالغُرور والتّكبّر والتّعالي، وهو من كلّ ذلك بَراء، يَنعتونه بأبشع النّعُوت خاصّة من سيأخذ مكَانه دَاخل القَطيع، ومن أقلقهم وجُوده لِسنوات وسنَوات. تكثرُ الطّعَنات وتكثرُ معها الهفوات ويَسترجع التّاريخ جميع الأخطاء، وتُطرح على طاولة التّشويه وتُنسى جَميعُ الإيجابيات.
يكتشفُ الفِيل المسكينُ قبل نُفوقه أنّه عَاش وهو يظنّ أنّ سيّد الفِيلة خَادمُهم ليكتشف أنّه كان حملاً لا يُحتمل على الجَميع. يكتشفُ أنّ نهايته الأليمة سَتُسعد من ظنّ أنّهم سَيتألمّون لِنهايته.
مُؤلم أن يكتشف الفيلُ الهرمُ أنّه عَاش من أجل سَرابٍ اسمه إسعادُ الآخَرين، والأشدّ إيلامًا أن يكتشف أنّ الآخرين لَم يَرسخْ في أذهانِهم سِوى هَفواته وزلّاته، أمّا شَهامته وشجَاعَتُه وصَبرُه وصفاءُ عقله ونقاءُ قلبهِ ونَظافةُ يده وطِيبتُه ونُبل أخلاقِه فهي كلّها ماء تبخّر في السّماء. مؤلمٌ أن يكتشف أنّ أكثر من دافع عنهُم هم اليوم أكثر من يتمنّون نِهايته وحيدًا وسَط رَميم العَاج.
مُؤلم أن تَموت وقَلبك يَنبض وعقلُك يُفكّر.
مؤلمٌ أن تَموت قبل وُصول ملك الَموت.
هي جُملة قَالها فِيلٌ في مَقبرة العَاج.
اِقتربَ منه بعض الأصدقاء، فوقف وكأنّ الحَياة عَادت إليه من جديد وقالَ: ولكن ما يبعثُ على السّعادة أنّ بين الموت والموت مَرحلة تسترجعُ فيها كلّ الذّكريات الجَميلة، تتذكر فيها أيّام الصّغر، أنت وإخوتُك وجيرانُك وأصدقاء الطّفولة. تتذكّر أيّام الشّباب والأصحابِ، تتذكّر ما تعلّمته وما علّمته، ومن علّموك ومن علّمتَهم. تتذكّر من ساندت ومن سَاندَك، من سَاعدتَ ومن سَاعدك. تتذكرُ كلّ ما هو نقيّ. تتذكّر أنّكَ فيلٌ لا يَعرف الحِقد والحَسد والكُره والمكرَ. تتذكّر أنّكَ فيلٌ بسيطٌ مُتواضع للضّعيف وقويّ على القَويّ.
فيلٌ يحملُ في داخله إحساسًا مُرهفًا لا يُقابله إحساسٌ، وترى أمّك تُناديك باشتياقٍ وتَبتسم وتَقول: لاَ تندم علَى ما فَات يَا ولَدِي، فتلك ليست الحياةُ بَل هي مَرحلة من مَراحل الحَياة. اِبتسم يَا بُنيّ، هي فقط نِهاية حَياة وبِداية أُخرى.
ابتسمَ الفِيل وقَال لأصحَابِه: أرجوكم غادرُوا ولا تلتِفتُوا إلى الوراء واَذكرُوني فَقط بخَير. تذكّرُوا فقط أنّ آخر صورةٍ لي كانت وأنا واقفٌ بشجاعةٍ وأبتسمُ. لا أعرفُ كم ستدُوم مرحلة ما بين الحَياة والحَياة، ربّما دَقائق، ربّما سَاعات، ربّما أيّام مَعدودات، ربّمَا أشهر، وربّما سَنوات وسَنَوات.
فقط يَا إخوَتي وأصحابي وأحبَابي، اشكُرُوا كلّ من أحبّنِي وسَاعدني وكانَ لي سندًا حتّى بابتسامةٍ وبَلغوهُ مني السّلام. واشكُرُوا كلّ من وَقف ضدِّي يومًا بشجاعةٍ وجعَلني أَقوَى. واشكُرُوا حتّى من يَكرهُني ولم يُخبرْني بذلك طِوال حَيَاتي، نعم أشكرُوه لأنّه رَغم كُرههِ لِي اِحترَم مَشاعري حتّى رِحيلي.
وذكّرُوهم أنّني كائنٌ ليس له إلّا الأصدقَاء، لِذلك حين يَضعف يَخرج بِصمتٍ ولا يُقلقُ الأصحَاب والأقرِبَاء والإخوةَ، فقط يُغادر بِذكَاء. قَال الأصدِقاء: رَافقتكَ السّلامة يَا خَير الأَصدِقاء، ولَن تَدمع أَعيُننا، بَل سَنُودّعك بابتسامةٍ كلّها صِدق وصَفاء ونَقاء.
إلى اللّقاء، هي فقط نهاية قصّة وبِداية أخرى.
التعليقات مغلقة.